بالرغم من شعوري بالحزن على أهالي الإرهابيين الذين فقدوا أولادهم مرتين، إلا أنني وجدت نفسي متوافقة مع موقف أئمة بريطانيا، الذين شعروا بأن لديهم واجبا تجاه دينهم وصورته المختطفة
لطالما واجه المسلمون الاتهامات، خاصة من اليمين المسيحي المتطرف في أميركا وأوروبا، بأنهم لا يشجبون الأعمال الإرهابية التي يقوم بها أفراد أو تتبناها جماعات محسوبة –زوراً-على الإسلام والمسلمين. وفي كل مرة يقع فيها عمل إرهابي جديد في عواصم الدول الغربية تحديداً، توضع الأقليات المسلمة هناك تحت المجهر. فتجد نفسها مضطرة المرة تلو الأخرى أن ترفع صوتها الذي تعبر فيه عن الرفض لهذه الممارسات الإجرامية الإرهابية، وتجريم من يقوم بها، والتأكيد على أنها ممارسات دخيلة، ليست لها سوابق في التاريخ الإسلامي حتى في أحلك أيامه. ولكن كان هناك ما يشبه الحرج من تكفير الانتحاريين، لعظم شأن التكفير في الشريعة الإسلامية. والمفارقة هنا هو أن الإرهابي نفسه لا يتحرج من تكفير الأمة بأسرها إن لم توافق هواه الإجرامي، بينما تتحرج هذه الأمة الطيبة من أن تكفره وتطرده من جماعتها. لكن هل يستمر الحال على ما هو عليه مع تصاعد الهجمات والجرائم؟
للأسف، لا يبدو أن عشرات الخطب والندوات والبيانات والبرامج التي تستنكر الإرهاب وأهله قد أفلحت في وقف دوي الانفجارات وفي حقن دماء الضحايا الأبرياء. فهؤلاء الإرهابيون لا يردعهم رادع، ولا يحركهم باعتقادي الإسلام أصلاً، هم شباب تم التغرير بهم أو غسل أدمغتهم من قبل منظمات استخباراتية وإجرامية عالمية وعابرة للقارات، لتوهمهم بأن ذلك طريقهم إلى الجنة. وهم، الشباب، لا يعفون من المسؤولية قطعاً، فكل نفس بما كسبت رهينة، قد سلموهم عقولهم طواعية. ومثل هؤلاء لا يجدي معهم الكلام ولا النصح ولا المواعظ التقليدية، بل لا بد من التعامل معهم بشكل قاطع وحازم وصادم. فأما من مات منهم فقد انتهى أمره وبئس المصير، لكن لعل الموقف الأخير الذي اتخذه الأئمة في بريطانيا يجدي نفعاً مع البقية المتحفزة للإرهاب والإجرام، وفي إخراجهم من غيبوبتهم الاختيارية.
بعد الحوادث التي ضربت بريطانيا في مانشستر ولندن خلال الأسابيع الأخيرة، شعر المسلمون البريطانيون بأن السيل قد بلغ الزُبى، وأنهم لم يعودوا مستعدين لأن يدفعوا ضريبة جرائم لا يد لهم فيها. فقام مجموعة من الأئمة الشجعان، وسرعان ما لحق بهم آخرون في طول البلاد وعرضها، باتخاذ قرار ثوري وغير تقليدي ولا متوقع حتى بحسب آراء أتباع الديانات الأخرى!
فقد قرروا ألا يغسلوا ولا يكفنوا ولا يقيموا صلاة الميت على الطريقة الإسلامية على أي إرهابي حتى وإن كان مسلماً، فهو بالأصح مدّع للإسلام. وفوقها لن يُسمح لهم، أو ما تبقى من جثثهم الكريهة، بالدفن في مقابر المسلمين. فكأنهم بذلك يخرجونهم من ملة الإسلام قاطبة فعلياً لا لفظياً فقط، فقد جاء في البيان: «نحن لا نقبل بكم جزءاً من مجتمعاتنا المسلمة وأنتم أحياء، ولا نريدكم أن تجاورونا في مقابرنا بعد الممات». أي من الآن فصاعداً لا علاقة لنا بكم إطلاقاً!
هذا الموقف العظيم أسقط الحجة من أيدي أولئك المتربصين، فما هو الموقف الأكثر وضوحاً وصرامة من هذا لبيان بأن المسلمين يشجبون الإرهاب؟
يقول أحد المعلقين البريطانيين إن هذا الموقف صادم حتى له كمسيحي، إذ يقول إننا كمسحيين مجبرون على أن نكرم الموتى، نحن نقيم مراسم دفن لائقة لعتاة المجرمين والقتلة والمغتصبين ومجرمي الحروب وغيرهم، من الصعب جداً أن تجد قساً مسيحياً سيرفض تلاوة صلاة صغيرة على جثة شخص ميت. فللموت هيبة وحرمة، ولأتباع الديانات جميعاً، وخاصة السماوية، طقوسٌ محددة تُحترم حتى في أوقات الأزمات والحوادث والحروب. إن اتخاذ المسلمين هذا الموقف لهو دليل على تأصل كرههم العميق لهذا الفعل الإرهابي، الذين حاولوا طويلاً نبذه من قومهم دون جدوى، فهم اليوم يتخلصون من الأفراد الذين يقومون به، متجاوزين الأحاديث التقليدية عن العفو والرحمة، إنه طلاق بائن بين المجتمعات المسلمة في الغرب وبين أفرادها الضالين، فلا يوجد موقف أقوى من هذا، والربط بين المسلمين والإسلام والإرهاب في الغرب بعد الآن غير مقبول. مما يعني أن الرسالة بحمد الله وصلت لكل منصف.
وبالرغم من شعوري بالحزن على أهالي الإرهابيين الذين فقدوا أولادهم مرتين، إلا أنني وجدت نفسي متوافقة مع موقف أئمة بريطانيا، الذين شعروا بأن لديهم واجبا تجاه دينهم وصورته المختطفة، وتجاه أفراد مجتمعاتهم الأبرياء الذين يدفعون الثمن بعد كل عمل إجرامي، وتجاه بلدانهم التي احتضنتهم، وتجاه مستقبل الإسلام في أوروبا تحديداً. لا سيما مع تصاعد الدعوات اليمينية المتطرفة التي تنادي بطرد المسلمين «الإرهابيين» بالمطلق، وإغلاق مدارسهم ومساجدهم، ومنع الحجاب وغيره من الشرائع السماوية.
أفلا يجدر بنا في العالم الإسلامي، ونحن الذين اكتوينا بنار الإرهاب أكثر من غيرنا، أن نمارس الشيء نفسه؟
لقد تساهلنا كمسلمين مع الإرهابيين، كثيرون يتحرجون حتى اليوم من تكفيرهم، وحتى تكفير «داعش» نفسها، على سوئها وقذاراتها، ويعمد البعض إلى استخدام مصطلحات مثل «إخوتنا وإن بغوا علينا»، ولا يخجلون من الترحم عليهم. البعض رفض تكفير المجرم جهيمان العتيبي وهو الذي استحل المسجد الحرام في البلد الحرام في الشهر الحرام لتحقيق مطالبه الخاصة، ووقع ضحية لحركته الإرهابية الكثير من الحجاج المحرمين الأبرياء ممن لا ناقة لهم ولا جمل. تلك الحادثة وقعت قبل ولادتي، فلو أننا حجبنا عنهم صلاتنا ودعاءنا وأبعدناهم عن مقابرنا يومها لربما قضينا على هذه الأفعال قبل ما يقارب أربعة عقود، ولما استغلها الأعداء ليطعنونا بها في ظهورنا، ومن ثم يجعلوننا نواجه العالم برأس كسير، واعتذار مرير عن جريمة لم نرتكبها وجراحها أصابت المسلمين في قبلتهم قبل أن تصيب العالم.