يتعرض كتاب «ضد الربيع العربي» الصادر عن دار مدارك للكاتب عبدالله بن بجاد العتيبي لأدوار قطر المؤثرة سلباً في استقرار الوضع في المنطقة، وتحريكها لأدواتها مثل جماعة الإخوان المسلمين، وعلى رأسها يوسف القرضاوي، وقناة الجزيرة الأداة الإعلامية الضخمة التي تخلت عن مهنيتها وتحولت إلى أداة سياسية، أو أداة بيد السلطة القطرية للتحريض والتلاعب بالشعوب.
ويمر الكتاب على أدوار قطر في الثورة المصرية، وكيف سرق القرضاوي منصة التحرير، والتمدد الأصولي والأولويات الإخوانية.
مصر: مطالب الداخل ومصالح الخارج
وتيرة الأحداث في مصر لم تزل متسارعة، وتفاصيلها اليومية لم تزل تفاجئ المراقبين، وبعد تجاوز الأيام العشرة الأولى لثورة 25 يناير تغيّر كثير داخل مصر وإقليمها وفي العالم أجمع، وتفرّقت المواقف كشُعَلٍ متباينةٍ من موقد الغليان في مصر.
خرج الشارع المصري بمطالب مستحقة، بل إن الخطأ هو عدم مراعاتها من قبل، وعدم تنفيذها في أوقات الراحة السابقة بدلاً من تنفيذها تحت مطرقة الأحداث المتوالية التي فرضت نفسها على المشهد. حين خرج الشباب وجيل «الفيس بوك» للشارع كانت مطالبهم محدودة في البطالة وما شاكلها، ولكنّ هذه المطالب كما جرى في تونس لم تزل تتصاعد، ولكنّ وموجة مصر دخل فيها «الإخوان المسلمون» وغيرهم صراحةً، وأخذوا يعبّرون عن أجندتهم الخاصة ويحمّلونها للشارع، حتى وصل الأمر لطريقٍ شبه مسدود.
ثمة مشكلة حقيقية في المشهد المصري، وهي أننا نعرف من يمثّل الدولة هناك، ولكننا لا نعرف من يمثّل الشارع، ولا من يمثّل الشباب، وهم قادة الحراك ووقود المظاهرات وروّاد التغيير، الأحزاب المصرية القديمة كـ«الوفد» و«التجمّع» ونحوهما لا تمثّلهم بل إنني لا أستبعد أن كثيراً منهم لا يعرفها ولم يسمع بها في حياته، نظراً لغيابها أو تغييبها الطويل عن الساحة السياسية، وقل مثل هذا في جماعة «الإخوان المسلمين»، فكثير من هؤلاء الشباب لا ينتمون لهذه الجماعة، وربما أن كثيراً منهم لا يحبّونها كذلك، وفيهم من يخاف أن تقفز للسلطة على أكتافهم، فهي بهذا لا تمثّل الشارع ولا الشباب، ولكنّها دوناً عن الأحزاب الأخرى لديها القدرة على تحريك جماعاتٍ منظّمةٍ لتنفيذ عملياتٍ على الأرض تخدم مصالحها، حتى لو كان في ذلك شيء من التخريب لضمان استمرار الفوضى التي منحتهم مساحةً واسعةً من العمل، وهم دون شكٍ مدرّبون تدريباً عالياً على العمل المنظّم في ظل ظروفٍ كهذه.
إقليمياً، ثمة دولٌ تصب الزيت على نار المظاهرات في مصر، وهي: قطر وتركيا.
أولاً: قطر، وقد كشفت برقية السفير الأميركي في الدوحة، والتي نشرتها «الجارديان» أنّ «قطر تستخدم قناة الجزيرة للمساومة في السياسة الخارجية»، وأوضحت أن «رئيس الوزراء القطري كان قد عرض على الرئيس المصري التخفيف من حدة انتقادات «الجزيرة» لمصر مقابل أن تعدّل الأخيرة من موقفها إزاء المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية»، ومن هنا فلا يستغرب أحد من برودة تغطية الجزيرة لمظاهرات الإصلاحيين في إيران، في مقابل إلقائها بكل ثقلها ضدّ الدولة في مصر، لأنها ببساطة ترى أنها تلعب سياسة، وليس لأحدٍ أن يملي على قطر كيف تدير سياساتها، ولكن من حق المراقبين أن يرصدوا الأحداث ويقرؤونها كل بحسب رؤيته.
ثانياً: تركيا، وهي بعدما أُحبطت من الرفض الأوروبي المتواصل لها، حاولت الاتجاه للمنطقة، ولعب دورٍ أكبر فيها، ومن هنا يمكن قراءة جملة الحراك السياسي التركي المتصاعد تجاه المنطقة في السنوات الأخيرة، والذي وصل مع أحداث مصر لحدّ أن يوجّه أردوغان نصائح مجّانية لمصر ولمبارك مباشرة وعلى الهواء، وبالتأكيد هو يفعل هذا خدمةً لبلده وحزبه «الإخواني» المتطوّر.
أما في الشأن الدولي، فقد اتخذت أميركا وتبعها الغرب مواقف وهطلت بتصريحاتٍ وكأنها ليست في سباق مع أخرى لإحداث تغيير دراماتيكي في مصر، ولكن أيضاً في سباقٍ مع المتظاهرين في ميدان التحرير في رفع سقف المطالبات وفي زيادة السرعة في تنفيذها مع فارقٍ مهم هو أنّ أميركا بعكس شباب التحرير كانت لديها فرصة كبيرة لهذه المطالبات في السابق، ولديها وعي أكبر بأنها لا يمكن أن تنفّذ لا «الآن» ولا «فوراً».
هل سرق القرضاوي منصة التحرير
في صخب الثورات تضيع كثير من الحقائق أو يتمّ التشويش عليها حيناً من الدهر على الأقل، وحين تشرئب أعناق الحالمين لسماء الطهر الثوري ويمعنون النظر في فضاء الأحلام الوردية يعمل الفاعلون على الأرض ويتحركون بما اعتادوه من تنظيمات سريّةٍ كانت تعمل أيّام القمع بفعالية فكيف وقد باتت في زمن الحريّة دون رقيبٍ ولا حسيب!
لم يستطع النظام السابق في مصر بكل عنفوانه وقوته أن يفرّق المتظاهرين في ميدان التحرير، أو يوقفهم عن الخطابات التي يطلقونها من منصتهم الشهيرة التي اقترح البعض الحفاظ عليها لتكون مزاراً سياحياً فيما بعد، ولكنّ شخصاً مثل يوسف القرضاوي استطاع أن يأخذ المنصة من الثوّار بكل سهولةٍ وأن يمنعهم من صعودها بكل يسر، وقد منع حرسه وائل غنيم وهو أحد أهم أسماء شباب الثورة من الصعود على المنصة أو مخاطبة الثوّار، واستطاع القرضاوي القادم من قطر أن يعدّل في مطالب الثورة ما شاء، فهو مثلاً طالب بفتح معبر رفح وهو مطلب لم يرفعه الثوّار المصريون يوماً فقد كانت مطالبهم وطنية خالصةً، والأغرب من هذا أن يستجيب المجلس العسكري لهذا المطلب بعد برهةٍ يسيرةٍ فيفتح المعبر، ومن قبل فهذا المجلس العسكري نفسه قد اختار للجنة الدستورية مجموعةً كلّها ترضي الإخوان، ما أثار قلق بعض القوى السياسية في مصر وعلى رأسها حزب «الوفد»، فهل كان هذا مجرد مصادفةٍ!
من هنا يأتي تحذير بعض العقلاء من داخل مصر من خطر اختطاف الثورة، كما كتب سعد الدين إبراهيم محذراً من أن طهرانية الشباب التي تجعلهم أقرب إلى القديسين حيث الإيثار وإنكار الذات «ربما هي التي أغرت البعض من الكهول للقفز على ثورة الشباب، ومحاولة الوصاية عليها أو تأميمها لحسابهم كليةً».
هذا في الخطر «الإخواني» وخطر الإسلام السياسي، وفيه ما يثبت أن «الإخوان المسلمون»، وإن استغلهم النظام السابق كفزّاعةٍ إلا أن هذا لا يلغي أنهم خطر حقيقي على الأرض، فهم لا يريدون أن تهدأ الأمور بسرعةٍ في مصر، قبل أن يعيدوا ترتيب صفوفهم وتجميع قوتهم داخلياً لتصل لمداها الأقصى، ومن ثمّ يعيدون تعزيز قنوات اتصالهم بالقوى الإقليمية المساندة لهم وعلى رأسها إحدى الدول الإقليمية حيث التحالف التاريخي، وقطر حيث الجزيرة قناة «الإخوان المسلمون» الإعلامية الأولى في العالم، وحيث أكبر تجمّع لقيادات الإسلام السياسي من كل البلدان، وهي سياسة معلنة لقطر منذ سنين طويلة.
إن الدول والجماعات المنظّمة لا تتحرك في أزمنة الفوضى وفق الشعارات والأحلام والخيالات، ولكنّها توظّفها جميعاً لخدمة مصالحها، بطريقةٍ منظمةٍ وفاعلةٍ، فالإخوان حين يعلنون أنّهم كحملٍ وديعٍ لا يريدون سلطةً ولا رئاسةً ولا دولةً، فإن هذا لا يعني إلا شيئاً واحداً هو أنهم متفرّغون للعمل الجادّ والمنظّم على الأرض للسيطرة على المشهد برمّته، وبعض الدول الإقليمية حين تطلق شعارات ضدّ إسرائيل وتوعز لـ«حزب الله» أن يعلن أنه سيحتلّ الجليل في شمال إسرائيل، لا تهدف إلا لأن تعمل على الأرض لتعزيز مكانتها ونفوذها وقوّتها محتميةً بمظلة هذه الشعارات الكبرى.
تخطئ بعض الدول الإقليمية حين تلعب لعبة التأثير على المجتمعات، وكأن هذه المجتمعات والشعوب لا تتطوّر ولا تتغير، وكأن الشعارات كفيلة بتدجينها وحشدها لما تريده تلك الدول، وهي تستغل في هذا السياق كل ما بيدها من أسلحة قويّة وفعّالةٍ حيث الطائفية، والخبرة في تحريك وإدارة المجاميع البشرية، وكذلك الحلف القوي مع جماعات الإسلام السياسي السُنية التي تقف على رأسها حركة «الإخوان المسلمون» في مصر.
للتاريخ أرواح تتخلّق وقواعد راسخة، وفي حديث التاريخ لا كذب، لقد خاض علماء الاجتماع والسياسة والفلاسفة من قبل ومن بعد في مسألة الوعي بالتاريخ وتلمس قواعد حراكه، فنجحوا في البعض وفشلوا في البعض الآخر، ومما نجحوا فيه أنّه في أعقاب كل ثورةٍ يجب أن تحدث اضطرابات وفوضى -طال وقتها أم قصر- وأنّ الاقتصاد لا بدّ أن يعاني ويخسر ويبقى الخلاف فقط في مدة تلك المعاناة وفي حجم هذه الخسارة، وكما أن «الإخوان» وبعض الدول الإقليمية خطر حقيقي لا مجرّد فزّاعةٍ فإن الفوضى وتضرر الاقتصاد في مصر خطر حقيقي وليس مجرّد فزّاعةٍ.
التمدّد الأصولي والأولويات الإخوانية
في ظلّ ما يسمّى بـ«الربيع العربي» يشهد العالم العربي أشدّ الصراعات وأعتى النزاعات، إنْ داخليةً في دول الاحتجاجات العربية وإن في كامل المحيط العربي والإقليمي والدولي، ففي داخل كل بلدٍ عربيٍ محتجٍّ صراعاتٌ ضخمةٌ وتداخلاتٌ بين مراكز القوى وبين التوجهات السياسية والثقافية والاجتماعية المختلفة، وفي الإقليم والعالم رصد وترقّب لما يجري ومحاولات لفهمه وتفسيره لاتخاذ موقفٍ محدّدٍ منه، في ظلّ هذا كلّه ينبغي رصد ما يمكن تسميته بالتمدد الأصولي والأولويات الإخوانية.
التمدّد الأصولي هو انتشار نفوذ الجماعات الإسلاموية بشتى توجهاتها واختلافاتها إنْ سياسياً عبر صناديق الاقتراع وإنْ فكرياً عبر صناديق الرؤوس، وإن اجتماعياً عبر صناديق القلوب، فالمشهد العربي اليوم خلافاً لأحلام بعض المثقفين من شتى التيارات غير الإسلاموية في بداية 2011 هو مشهد أصولي بامتيازٍ، ما دعى كثيراً منهم إلى إعادة التفكير في رؤيته وأدّى ببعضهم لتغيير طروحاته وخطابه.
سياسياً وعبر صناديق الاقتراع -مع اختلافات جديرة بالاهتمام- وصل حزب «النهضة» للسلطة في تونس، ووصل عبدالإله بن كيران إلى سدة الحكومة في المغرب، ووصل «إخوان مصر» وسلفيّوها وجماعتها الإسلامية إلى الأغلبية في البرلمان المقبل.
أما فكرياً وعبر صناديق الرؤوس فإنّ غالب الرؤوس عربياً معتقلة لفكرٍ دينيٍّ مسيّسٍ تمّ ضخّه عبر ثمانين عاماً للسيطرة عليها وتوجيهها، فهي خاضعة ومطيعة له، فاقدة للإرادة والفردانية، كما أثبت الناخبون الذين منحوا أصواتهم للأحزاب الإخوانية والأصولية بشكلٍ عامٍّ.
أمّا اجتماعياً وعبر صناديق القلوب، فقد كان ضخّ الخطاب الإخواني عبر سنواتٍ طويلةٍ مع اعتماده على الخطاب الديني المسيّس يستعمل العاطفة كثيراً إنْ من خلال التهييج، حيث الخطب الدرامية والمماهة بين الجماعة والدين أو التجريم الذي يعني السعي لزرع الإحساس لدى المجتمعات والأفراد بأنّهم مذنبون مقصرون، وإنْ من خلال استدرار العواطف لما جرى لهم من تعذيبٍ وحرمانٍ وقسوةٍ.
أمّا ما أعنيه بالأولويات الإخوانية والأصولية فهو احتلال الخطاب الأصولي بشتى تفرعاته للمشهد العام وللجدال الثقافي والحراك السياسي والنشاط الاجتماعي والاختلافات الاقتصادية والحضور الإعلامي، بمعنى الحضور الطاغي لأطروحات الأصوليين وتوجهاتهم وأفكارهم، إن من خلال أطروحاتهم ومواقفهم هم ومؤيديهم، أو من خلال أطروحات ومواقف خصومهم، أو من خلال من يحاولون قراءة المشهد العام أو بعض تفاصيله. لقد أصبحوا حاضرين أكثر مما سبق، بل أكثر مما ينبغي.
لقد أصبحت فتاوى القرضاوي وضبابية الغنوشي وتصريحات «الإخوان المسلمين» أولويات دخلت عالم السياسية والثقافة والاقتصاد والإعلام، في السياسة هم محل جدلٍ في «تونس الغنوشي» و«مصر الإخوان المسلمين» و«ليبيا الإمارات الإسلامية» المسلحة، وفي سورية واليمن لم يزل الجدل يتوالى هل سيكون خيار الإخوان المسلمين القادم أسوأ من النظام القائم أم أحسن؟
لئن كان جدل الدستور مهماً داخل البلدان العربية المحتجة، وطبيعة الدولة مدنية أم دينيةً كذلك، فإنّ التحدّي الأهمّ سيكون محوره التنمية والاقتصاد، كيف ستستطيع هذه الجماعات الأصولية، وهي بدون خبرةٍ في إدارة الدول خاصةً في لحظاتٍ شديدة الاضطراب، وفي ظل موارد قليلةٍ أن تصنع نجاحاً تنموياً يلبّي رغبة رجل الشارع العادي، وأن تبني اقتصاداً يحمي كيان الدولة ويوصل للرفاه الاجتماعي؟
كما أنّ أسئلةً أخرى سيكون من الواجب عليهم مواجهتها، كيف سيتعاملون مع إسرائيل والاتفاقيات الدولية التي وقّعتها مصر مثلاً؟ وهل سيجرّون البلاد والمنطقة لحربٍ ضروسٍ مع إسرائيل سيدفع ثمنها غالياً شعب مصر والشعوب والبلدان العربية؟ أمّ سيلقون في القمامة خطاباتٍ وشعاراتٍ ومفاهيم -كانوا يقولون لنا إنّها هي الدين نفسه- واصلوا ضخّها خلال ثلاثين عاماً ضد عملية السلام واتفاقياته؟ الأكيد هو أنّ تغيراتٍ ضخمة ستطرأ على خطابهم وستنطلق آلة تبريرٍ ديني وأخلاقي لكل قرارٍ يتخذونه وكل موقفٍ يتبنّونه.
ليس الموقف من إسرائيل هو ما سيواجهونه ولكن كذلك الموقف من القوى الإقليمية في المنطقة، وتحديداً إيران ذلك الحليف حتى الماضي القريب؟ هل سيقفون معها ضدّ دول الخليج العربي؟ أم سيعيدون موقفهم ليعادوا الاثنين معاً؟ بل ماذا سيكون موقفهم من قطر راعية الإسلام السياسي في العالم لأكثر من عقدٍ من الزمن؟
كان البعض مطلع العام يراهن على شباب «فيسبوك» و«تويتر» و«التحرير»، ويرفض أي إشارةٍ للخطر «الإخواني» أو الأصولي ويدين أخلاقياً كل من كان يطرح حديثاً كهذا، وحين أفرزت صناديق الاقتراع الإخوان والأصوليين بشتى النكهات عاد بعضهم ليتحدث عن اختطاف ثورات الشباب من قبل الأصوليين، وتساءل البعض الآخر أين اختفى ذلك الشباب؟ أما البعض الآخر فقد انتقل للحديث عن المستقبل وأن الأصوليين لا بدّ أن يلتزموا بشروط الديموقراطية، وأن لا يعيدوا البلد للوراء في عملية اشتراطٍ على الأصوليين ليس على الأرض ما يجبر الأصوليين على الالتزام بها.