المجتمعات التي نهضت وتقدمت في شتى مجالات الحياة، لم تتقدم لأن القدرات العقلية لأصحابها تختلف عن غيرهم، ولكن من أهم عوامل تقدمها هو تحرير العقل
أول ما نزل من القرآن، الآيات الأولى من سورة العلق، وهي قوله تعالى: «اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم» (العلق: 1-5)، ففيها معاني عظيمة، فهي تشكل عنوانا للكتاب «القرآن»، فالكتاب يجمع مقاصده في عبارة وجيزة في أوله.
ولا شك أن الكتابة والقراءة المستمرتين، لهما فوائد لا تحصى سواء على الفرد أو المجتمعات، فهي الوسيلة التي تجعلك تفكر، وتستخدم عقلك في التحليل، والاستنباط، والاستنتاج، وصقل قدراتك، وبناء عقلك باستخدام المعلومات التي تستسقيها من القراءة، خصوصا إن كانت قراءتك فيما ينقل من المصادر الموثوقة، ويُكتب بناءً على معاير أكاديمية محددة.
ولا أعتقد أن مشكلتنا في قلة الكتب أو ندرة القراء، ولكن ينقصنا أن نكتب بلا خوف، ونعبّر بلا قيود، ونسطر بلا حواجز، وكل هذا النقص يجعلنا نكتب أحيانا بما لا نعتقد، ونذكر أحيانا ما لا نريد من الأساس ذكره، ونمدح أحيانا من لا نريد مدحه، وإنما مجبرون نحن على مدحه حتى لا تتعرض كلماتنا للإيقاف، أو تمنع أقلامنا من الكتابة.
عندما تقرأ كتابا أو مقالا لكُتاب من جلدتنا، تستغرب من أن الكلمات فيهما محبوسة، وكأنها تريد أن تتحرر، وكأن الأحرف تود لو أنها تصرخ لتخرج المعنى الحقيقي الذي يدور داخلها، فكتبنا ومقالاتنا وكتاباتنا ليس لها طعم في غالبها، ولا تأثير في مجملها، لأنها محبوسة، ولا يمكن منها أن تأُثر حتى تتحرر من قيود هذا الحبس المذل.
لا يمكن لعقل رشيد أن يبرر للناس عدم قراءة كتب معينة، بحجة أنها يمكن أن تؤثر على معتقدات أو أفكار من يقرؤها، خصوصا إن كان المخاطبون عاقلين بالغين أحرارا، ولا يمكن لعقل حصيف أن يطلب من البشر عدم التفكير الدقيق، وطرح الأسئلة التي يمكنها أن توسع مداركهم، وتعلي آفاقهم، بحجة أن تلك الأسئلة لا نفع لها، ويمكنها أن تلبس الحق بالباطل.
الأسئلة هي النقطة التي تبدأ منها صناعة العلم، وهي التي تجعلنا نكتشف الحقائق، وهي التي تبنى عليها النظريات. فلو نظرنا إلى نيوتن -ذاك العالم العظيم- بدأ فكرة نظريته المشهورة في اكتشاف الجاذبية من سؤال، ويعدّ هذا السؤال من أعظم الأسئلة التي طرحها العلماء الحقيقيون، ألا وهو: «لماذا التفاحة تسقط على الأرض والقمر لا يسقط من السماء؟«سؤال عندما تقرؤه تستسخفه، ولكن دعني أخبركم بأنه عندما اكتشف الجواب تفجّر العلم، وتنوعت الاختراعات، ولا تكاد تجد اختراعا لم يستفد من نظرية نيوتن الشهيرة حول الجاذبية. يجب علينا ألا نستسخف الفكرة حتى نستوعبها بجميع أبعادها، ولا نحجب سؤالا حتى نكتشف الجواب الحقيقي له، أو نصل إلى الجواب الذي لا يخالف العقل، ولا يعارض النقل الصحيح، والمنطق السليم، فحاجتنا إلى طرح الأسئلة، واكتشاف الأجوبة، فطرة فطرنا الله عليها، فانظر إلى نبي الله إبراهيم ماذا قال لربه:»ربي أرني كيف تحيي الموتى«، وأنظر إلى جواب الله له:»أَوَ لم تؤمن«، وانظر إلى الإثبات الذي أراه الله لإبراهيم:»فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا، ثم ادعهن يأتينك سعيان واعلم أن الله عزيز حكيم«(البقرة: 260).
إن المجتمعات التي نهضت وتقدمت في شتى مجالات الحياة، لم تتقدم لأن القدرات العقلية لأصحابها تختلف عن غيرهم، ولكن من أهم عوامل تقدمها هو تحرير العقل، ومنح الحصانة لمن يطرح فكرة أو ينقد موضوعا أو يعبر
عن رأي، فعندما تقرأ في العصور المظلمة في أوربا»الفترة بين الأعوام 400 - 1400 تقريبا»، والتي تفشى فيها الجهل، والتّزمت الديني الشديد، وتعاظم دور الكنيسة في مختلف مجالات الحياة، تجد أن هذه العصور كانت تحارب العلم، والعلماء الذين يخالفون رأي الكنيسة، أو يعارضون الطريقة التي تدار بها البلاد، فكم من عالم تم نفيه بسبب مخالفته لما كان مستقرا في الكنيسة، وكم من مفكر تم قتله لنقده الطريقة التي تسير عليها البلاد، ولم تزدهر أوروبا إلا بعد أن منحت الحرية الفردية، ونزعت القيود عن التعبير. وأختم فأقول، والأفكار المكنونة لا بد أن ترى النور، وحرية التعبير لا بد أن تزداد، إذا أردنا أن نسود المجتمعات، وننشر الثقافة، ونكتشف العلوم والاختراعات، وإلا سنبقى على حالنا.