يطير المشاهد حماسا حين يسمع الحديث من الإعلام القطري عن المؤامرة الأميركية على الإسلام والمسلمين، ولا يفكر في أن مكتب مبادرة راند للتغيير في الشرق الأوسط ورئيسته شاريل بينارد وزوجها الذي كان سفيرا للولايات المتحدة في العراق إبان الاحتلال زلماي خليل زادة مقيمون في الدوحة.
منذ أيام الْتَفَت عدد من الكتاب في صحافتنا المحلية إلى الحديث عن القيادة القطرية وأخطائها في التعامل السياسي والإعلامي مع دول الخليج والمملكة العربية السعودية بشكل أخص، وإن كانت الصحافة المحلية قد وقفت موقفا واحدا منسجما مع بعضه في نقد السياسة القطرية إلا أن الإعلام الإلكتروني المُعَبِّر بشكل أكبر وأوسع عن رأي النُخَب باختلاف توجهاتهم، أظهر اصطفافا سيئا في هذه المسألة ينبئ عن أن سقف قبول الاختلاف في الآراء وفي قراءة الأحداث شديد الانخفاض، بل يُلامس الرؤوس لدى جميع التوجهات الفكرية؛ فنجد من يُساند الحملة الصحفية على السياسة القطرية يتهم من يقف ضدها أو يتخذ موقفا محايدا منها بانعدام الوطنية والمشاركة في محاربة الوطن والولاء للخارج، بل إن الصحف أيضا نشرت مقالات تحمل هذا الطرح؛ وفي المقابل نجد من المعارضين للحملة من يتهم المشاركين فيها بتفريق الصف الخليجي وربما عداوة المشروع الإسلامي والحقد على التدين والولاء لدحلان والانصياع لإعلام دولة خليجية أخرى.
والذي أراه أن هذا الاصطفاف بهذه الطريقة في مواجهة كل قضية تختلف رؤيتنا حولها نذير سوء؛ فهو ينبئ عن واقع ثقافي محتقن مهيأ للتصارع؛ وواقع كهذا من المُعتاد في تجارب الأمم أن يكون قابلا للاستقطاب، مناسبا بشكل كبير لبذر الحقد والكراهية بين فئات المجتمع التي يمثلها أو ربما يقودها من يُصْطَلَح على تسميتهم بالنخب؛ هذا في تجارب الأمم؛ وليست بلادنا بِدْعا عن سنن الله في المجتمعات؛ لذلك فإن ظاهرة الاصطفاف والتنازع الشديد عند أي اختلاف في التصورات إذا لم يتم البحث عن أسبابها ومعالجتها من جذورها فسيكون أُكُلُها مُرَّا ولو بعد حين.
بخصوص الأزمة مع قطر وَجَدْتُ أن معظم التحليلات لا تنفذ إلى الأعماق، أي أنها تناقش ظواهر فقط ولا تتعرض كثيرا لأساس المشكلة؛ ولو استطعنا أن نجتمع على الأساس الذي أنشأ الأزمة فإننا حتى وإن اختلفنا فلن يكون هناك فجوة بيننا كما هو حاصل الآن، لأن منطلقاتنا حينذاك ستكون واحدة وسيبقى خلافنا في طريق المعالجة.
أبدأ الحديث عن نظرتي للأساس الذي أزعم أن هذه الأزمة أحد فروعه، وهو أمر تحدثت عنه في عدد من اللقاءات التلفزيونية وبعض المقالات، ومنها ما نشرته صحيفة «الوطن» وأعني به المشروع الأميركي في منطقتنا.
وهو مشروع يمكن اختصار أهدافه الاستراتيجية فيما يلي:
- تقسيم المنطقة عبر صناعة الفوضى الخلاقة.
- نشر ثقافة العولمة والمتمثلة في تسييد القيم الأميركية في العالم.
ثم بعد ذلك تأتي التكتيكات، أي الخطط المتغيرة الموصلة إلى هذه الأهداف.
والتقسيم وصناعة الفوضى الخلاقة في حاجة إلى نزاع فكري وعقدي عميق جدا ويصعب رأبه، وهو موجود وحاضر في العراق المنقسم إلى سنة وشيعة، لذلك جاءت إدارة الفوضى الخلاقة مبكرة هناك؛ لكن تقسيم العراق وهو الثمرة المرجوة من هذه الفوضى تأخر كثيرا لأسباب من أهمها (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين).
أما السعودية فالانقسام الفكري والعقدي فيها ضعيف، حيث الدولة وغالبية الشعب مشتركون في المذهب السني؛ والوجودُ الشيعي لا يملك تأثيرا خطيرا كحاله في العراق؛ لذلك فصناعة الفوضى الخلاقة مستحيلة لأنها تحتاج إلى زمن أطول يمكن خلاله تربية عناصر شيعية قابلة للتحريك من قِبَل قوة شيعية كإيران؛ والعمل على هذا لازال جاريا في العوامية، وقد تمت تجربة قدراته من خلال أزمة البحرين التي تبين تواطؤ الولايات المتحدة فيها من خلال عدة سياقات ليس هنا مجال بحثها.
أما الهدف الآخر وهو العولمة فمن قراءة العديد من نتائج تقارير بعض مراكز الأبحاث الأميركية ومقابلتها بتصريحات العديد من الساسة الأميركيين (وقد ذكرت أسماء التقارير ومقولات السياسيين في مقالات سابقة ) نصل إلى نتيجة وهي أن من سبل إيصال المنطقة للعولمة المنشودة الترويج لنسخة من الإسلام شديدة الهلامية، قابلة للتشكل وفق مفهوم للدين مناسب للرؤية الغربية، أو ما اصطُلح عليه بالإسلام كما يريده الغرب أو التوجه الليبروإسلامي.
وكذلك دعم النفوذ الثقافي للفكر الليبرالي الذي لا يمكن في البيئة الثقافية السعودية وضع فواصل واضحة بينه وبين التيار الليبروإسلامي حيث تكاد الرؤية للنصوص والأحكام الشرعية تتطابق لدى الفريقين رغم تنافرهما الشديد.
لم يكن الكيان الصهيوني أو إيران أو مجازفات صدام حسين في المنطقة تكتيكات ناجحة للوصول إلى الغايات الأميركية لأسباب عديدة، وكان الأكثر جدوى: دعم نشاط محلي من المنطقة ذاتها يكون أكثر قبولا.
وبعيدا عن اتهام دول أو مؤسسات بالاتفاق مع أميركا فإن التوافق أو تقاطع الأفكار مع المشروع الأميركي حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها.
ففيما يتعلق بالشق الليبرالي في المشروع فإن رجال أعمال قد تبنت مؤسساتهم الإعلامية نشر الطرح الليبرالي بشكل أثَّر للأسف على سمعة الكثير والسعودية بشكل خاص لكونه يتناقض مع رسالتها التي قامت عليها، باعتبار أن ملاك هذه المؤسسات سعوديون، مع أنها للحقيقة لا تنطلق من الأراضي السعودية، بل من دول أخرى؛ وتعتبر الإمارات مثالا للنجاح الليبرالي في الإدارة الأمر الذي يقطع مسافات لتسويق النموذج الليبرالي في المنطقة.
أما فيما يتعلق بالأجزاء الأخرى من المشروع الأميركي، فمن الواضح أن الرؤية القطرية تقاطعت معها بشكل كبير؛ فتسليط إعلامها الموجه على السعودية منذ عام 1416 كان واضحا لدرجة جعلت السعودية تمنع الجزيرة من تغطية الحج لعدة أعوام بسبب تبنيها للوجهة الإيرانية في موقفها من تصوير المشكلات التي تواجه السعودية في مواسم الحج؛ والحديث بالتفصيل عن موقف الإعلام القطري الموجه وتبنيه للتحريض ضد المملكة طويل وممل ومكرر ولا ينكره أحد .
وقد اكتسب الإعلام القطري قدرته على التأثير من أمرين:
الأول: حرفيته بعد ضخه للأموال !!
الآخر: إرسال كل ما يريده من رسائل عبر قالب مناصرة القضايا الإسلامية، وقد اكتسب شعبية كبيرة في العالم الإسلامي بسبب هذا التوجه، بل حتى وقوفه مع الحوثيين في الحرب السادسة، ووقوفه مع المعارضة البحرينية ألبسها هذا اللباس الديني؛ كما استطاع التأثير في أحداث الثورات العربية بسبب تبنيه هذا الخطاب مضافا إلى الخطاب الحقوقي والشعبوي، مما جعله قادرا على الشحن والتعبئة.
في حين كان الإعلام المحسوب على السعودية والمنطلق من خارجها يخسر كثيرا من قدرته على التأثير بسبب تبنيه للخطاب الليبرالي المناقض لحقيقة سياسات المملكة وتوجهات الشعب فيها.
ويجب أن نعترف أن الإعلام القطري بقالبه الحقوقي والشعبوي المؤثر استطاع أن يغطي على جميع خطايا السياسات القطرية وتناقضاتها؛ فحين كانت قناة الجزيرة تقف وبقوة ضد الغزو الأميركي للعراق لم يكن المشاهد يفكر من أين تدار الحرب ومن أين تنطلق الطائرات الأميركية؛ وفي حين كان البعض يكتب عن قاعدة الأمير سلطان لم يكونوا يجدون غضاضة في صمت الموتى عن قاعدتي السيلية والعديد.
ويطير المشاهد حماسا حين يسمع الحديث من الإعلام القطري عن المؤامرة الأميركية على الإسلام والمسلمين، ولا يفكر في أن مكتب مبادرة راند للتغيير في الشرق الأوسط ورئيسته شاريل بينارد وزوجها الذي كان سفيرا للولايات المتحدة في العراق إبان الاحتلال زلماي خليل زادة مقيمون في الدوحة.
وفي حين كان هذا الإعلام يقف مع حماس كان بيريز وليفني ووزير التربية الصهيوني يتعاقبون بكل احترام على زيارة قطر!
إلى آخر ما هنالك مما قد يظهر لنا على أنها تناقضات، وهي في الحقيقة معالم تقاطع المشروع الأميركي مع المصالح أو الرؤية القطرية؛ وسوف تبدو لك في أتم صور الجلاء حين تفهمها بهذا الشكل.
المشكلة التي تواجه قطر اليوم وأعتقد أنها تواجه السعودية أيضا هي أميركا الجديدة ؛ لكن كيف ذلك؟
الجواب: أن رئيسها كما - يصرح هو- جاء إلى المنطقة بمشروع أميركي جديد لا يؤمن بالفوضى الخلاقة ولا بالعولمة؛ مشروع قوامه المصلحة الأميركية الصرفة، وهو واثق أنها مع السعودية واستقرارها وليست مع إيران ونفوذها في المنطقة؛ وهذا التوجه يرفع معظم التقاطعات التي بين سياسة أميركا وبين توجهات قطر؛ الأمر الذي يعني عودة قطر إلى ما كانت عليه قبل عام 1995 وهو ما لا أظنه مرضيا للسياسة القطرية.
ههنا تبدو المشكلة التي تواجه قطرا.
أما المشكلة التي قد تواجه السعودية فهي احتمالية ركوع ترمب أمام ضغوطات الإعلام والساسة الأميركيين القدماء واضطراره لاستئناف السير على خطى أسلافه؛ أو نجاح خصومه في إزاحته.
وأعتقد أن المخرج من هذا الرهان هو أن تعود الدولتان السعودية وقطر إلى بعضهما، فكل منهما يشكل الخيار الأفضل للآخر وليس أي خيار غيره؛ فاجتماعهما في مشروع واحد هو ما يقتضيه العدل والعقل والدين والتاريخ؛ لاسيما من قِبَل قطر تجاه عمقها الثقافي والاستراتيجي، المملكة العربية السعودية.