يكفي أن صلاح الدين حارب الصليبيين، وطردهم من بيت المقدس، وله إنجازاته الكبرى، كما له أخطاؤه وإخفاقاته، غير أن تلك الأخطاء ليس منها ما زعمه «المحقق» يوسف زيدان!
أناقش اليوم في هذه المقالة بقية دعاوى يوسف زيدان على صلاح الدين الأيوبي، والتي ألقاها على شاشة التلفزة ركامًا بلا خطام ولا زمام، أو كالبنيان الذي رصّ بانيه لبناتِه بلا مِلاط؛ فمهما ارتفع كان ارتفاعُه سبب سقوطه وانهياره.
يعيب يوسف زيدان على صلاح الدين أنه استخدم موسى بن ميمون (اليهودي) وجعله طبيبًا له، ولم يكن موسى بن ميمون طبيبًا فقط، بل كان فيلسوفًا ولاهوتيًا يهوديًا.
وهنا يشير يوسف زيدان – في لفتة شعبوية رديئة – إلى أن موسى بن ميمون «أحيا الفكر اليهودي»، وأنه أسهم في بقاء «اليهودية» حتى الآن. كل هذا في سياق العيب على «صلاح الدين» وذمّه.
وكأنه من العيب على صلاح الدين أو غيره تقريب اليهود والنصارى، والمطلوب منه إبعادهم وإقصاؤهم! هذا، وكانت حلقة زيدان عن «الفكر التنويري في مصر»؛ ولو ورد في التاريخ أن صلاح الدين «أقصى اليهود»، وأبعدهم، لذمّه زيدان بأنه ظلمهم وفعل بهم وفعل! إن مشكلتنا مع اليهود ليست لأنهم يهود، فهم – قبل الدولة الوطنية – أهل ذمّة، يجب الإحسان إليهم والعدل معهم، ولا عيب ولا تحريم ولا محظور عقلًا ولا شرعًا في الإفادة منهم ومن خبراتهم.
أما حربه مع الصليبيين فلا جدال فيها، غير أن يوسف زيدان يزعم أن «فتح بيت المقدس» إنما كان «صلحًا» لا فتحًا، ولست أريد من القارئ إلا أن يعود إلى المؤرخين المعاصرين لصلاح الدين؛ ابن أبي طي الحلبي، وبهاء الدين بن شدّاد، وابن الأثير وغيرهم – مع العلم أن ابن الأثير كان خصمًا لصلاح الدين – ليجد أن صلاح الدين حاصر القدس حتى اضطر الصليبيين إلى الاستسلام وأخذ الأمان. فما الضير في أن يفتح صلاح الدين القدس بالأمان؟ ولمَ لا يجوز أن يُعدّ هذا فتحًا وانتصارًا في عرف يوسف زيدان؟ إلا إذا كان زيدان يريد من صلاح الدين أن يجعل عاليها سافلها، وأن يمحو الصليبيين من الوجود! غير أن صلاح الدين كان «ملكًا» صالحًا ملتزمًا بتعاليم الدين في الجملة، وليس هو معصومًا من الخطأ.
ثم يمدّ زيدان فيذكر أن أخا صلاح الدين (الملك الكامل) أعاد القدس إلى الصليبيين في صفقة سياسية، وقد كتبت في هذا مقالًا، وهو خطأ فادح، بل جريمة وقع فيها الكامل، فما علاقة صلاح الدين بجريمة فعلها أخوه بعد موته بما يزيد على ثلاثين سنة؟ إلا إن كان زيدان لا يؤمن بتعاليم القرآن {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.
وأيًا ما كان الأمر؛ فليست قراءة زيدان للتاريخ إلا قراءة انتقائية، مغرضة، لها أهدافها؛ ذاك أنه صرّح بأن تدريس «البطولات» لطلاب المدارس تؤدي إلى العنف! وتربّي فيهم العنف، ومن أجل هذا يحرص يوسف زيدان على تحطيم الأبطال المجاهدين من أمثال صلاح الدين الأيوبي وغيره. ومثَل يوسف زيدان في انتهاجه هذا النهج، كمثل من رأى حفرًا في طريق، فسدّ الطريق كله، وأمر بإغلاق جميع الطرق. ومثل طريقة زيدان في التفكير هذه، كمثل من يريد أن يطمس شعيرة اسمها الجهاد من أجل أن ثلة من المتطرفين شوّهوه. ولو أراد أحد أن يطمس كل مبدأ من أجل أن هناك من شوّهه ما بقي هناك مبدأ.
إن فضيلة الجهاد ضرورة نحتاجها في الدفاع عن الأوطان والمقدسات، وإن تعليم نماذج البطولة ضرورة يحتاج إليها أبناؤنا، وجنودنا حين ترفع رايات القتال، ويدعو الداعي إلى صدّ العدوان. وإذا كان القرآن الكريم فيه آيات تحثّ على الجهاد في سبيل الله فهل نمحوها من القرآن، أو نلغي القرآن كله بحجة العنف؟
ليس القرآن الكريم ولا السنة النبوية، ولا سير أبطال هذه الأمة التاريخيين هي ما صنع العنف، ولقد كان الناس يقرؤون سيرة الأبطال ويتدارسونها، والسيرة النبوية وبطولات الصحابة وتضحياتهم، فلم لم تظهر حركات العنف «الإسلاموية» إلا في العقدين السابقين؟ إذًا، على غير صلاح الدين فتّش!
إن مما يؤسَف له أن يُتعاطى مع التاريخ بهذه الطريقة «الزيدانية»، بحجة أن «ده موجود في التاريخ»، وعلى طريقة «وتقول المصادر»! من دون بحث ولا تمحيص ولا درس منهجيّ.
إن قصارى أخبار التاريخ المدوّنة في الكتب أن تكون «ظنيّة»، فالواقعة التاريخية ليست هي «الإخبار عنها»، وإن الحدث التاريخي ليس هو «الحديث عنه»، وفور أن يعبّر عن الواقعة بـ «خطاب»، فقد انطبق على هذا الخطاب شروط التأويل.
لا يؤخذ بالرواية يتفرّد بها راوٍ واحد، حين يغفلها غيره من المعاصرين، وتوضع رواية المعاصر الذي «لم يرَ ولم يشهد» في موطن الشك، في مقابل المعاصر الذي «رأى وشهد»، فضلًا عن اللجوء إلى كتب متأخرة عن عصر الحادثة.
وبعد، فما كان صلاح الدين إلا «ملكًا» من ملوك المسلمين، سار بسيرة الملوك، وأراد مصلحته ومصلحة أولاده، وأورث أولاده الحكم من بعده، وقسم البلاد فيما بينهم، غير أنه يكفيه أن حارب الصليبيين، وطردهم من بيت المقدس، وله إنجازاته الكبرى، كما له أخطاؤه وإخفاقاته، غير أن تلك الأخطاء ليس منها ما زعمه «المحقق» يوسف زيدان!