ثمة مؤشرات قوية تفيد بانطلاق سباق تسلح سيبراني وحدوث هجمات ومناوشات في الفضاء السيبراني تُنذر بحروب بلا ضحايا ودماء، لكن محاورها وجبهاتها الرئيسية هي المصالح والإرادات والعقول والقلوب
يثور جدل حول مفهوم «الحروب السيبرانية»، وذلك على خلفية تداخله مع مفاهيم أخرى، مثل الإرهاب الإلكتروني أو الإرهاب الرقمي، والحرب غير المتماثلة. وثمة محفزات وسياقات لظهور هذا النوع الجديد من الحروب في العالم وفي الشرق الأوسط تحديدا.
وتتسم الحروب السيبرانية بخصائص مختلفة عن نظيراتها التقليدية، من حيث طبيعة الأنشطة العدائية، والفواعل، والتأثيرات في بنية الأمن العالمي. وتعبر عن نمطين من القوة (الناعمة والصلبة) في عملية توظيف التفاعلات في الفضاء الإلكتروني، مما يعكس تنامي القدرات والتهديدات المتصاعدة لأمن البنية التحتية الكونية للمعلومات.
ويتجاوز مفهوم السيبرانية مفهوم الحرب الإلكترونية الذي كان مقتصرا على رصد حالات التشويش على أنظمة الاتصال، والرادار، وأجهزة الإنذار، إلى قيام دولة أو دول أو جماعات أو أفراد بأنشطة عدائية إلكترونية، منها، مثلا، الهجمات الإلكترونية، والإرهاب الإلكتروني.
وبينما تنطوي الحرب التقليدية على استخدام الجيوش النظامية، ويسبقها إعلان واضح لحالة الحرب، وميدان قتال محدد. تبدو هجمات الفضاء الإلكتروني غير محددة المجال، وغامضة الأهداف، كونها تتحرك عبر شبكات المعلومات والاتصالات المتعدية للحدود الدولية، إضافة إلى اعتمادها على أسلحة إلكترونية جديدة تلائم طبيعة السياق التكنولوجي لعصر المعلومات، حيث يتم توجيهها ضد المنشآت الحيوية، أو دسها عن طريق عملاء لأجهزة الاستخبارات.
ويتوقف استخدام مصطلحات، كـ«الحرب» أو«الإرهاب»، لوصف الأعمال العدائية الإلكترونية على طبيعة الاستخدام السياسي، ومدى توظيفها دعائيا بين الدول.
ولعل من أبرز السياقات الرئيسية لتنامي التهديدات الإلكترونية ومن ثم إمكانية بروز حروب سيبرانية، التالي: تزايد ارتباط العالم بالفضاء الإلكتروني، الأمر الذي اتسع معه خطر تعرض البنية التحتية الكونية للمعلومات لهجمات إلكترونية، وتراجع دور الدولة في ظل العولمة وانسحابها من بعض القطاعات الاستراتيجية لمصلحة القطاع الخاص، نشوء نمط جديد من الضرر على خلفية الهجمات الإلكترونية يمكن أن تسببه دولة لأخرى، دون الحاجة للدخول المادي إلى أراضيها، قلة تكلفة الحروب السيبرانية، مقارنة بنظيراتها التقليدية، فقد يتم شن هجوم إلكتروني بما يعادل تكلفة دبابة، من خلال أسلحة إلكترونية جديدة، ومهارات بشرية، علاوة على أن هذا الهجوم قد يتم في أي وقت، سواء أكان وقت سلم، أم حرب، أم أزمة، ولا يتطلب تنفيذه سوى وقت محدود.
وشكل سعي الدول لحيازة القوة السيبرانية، علاوة على تغير طبيعة الصراعات الدولية، مدخلا تفسيريا لنشوب الأنشطة العدائية الإلكترونية، وذلك في الإطارين التاليين:
أ- الأمن السيبراني المعني بعملية وضع المعايير والإجراءات المتخذة لمنع وصول المعلومات إلى أيدي أشخاص غير مخولين بها عبر الاتصالات، ولضمان أصالة وصحة هذه الاتصالات. وهو الأمن الذي لا يقتصر على البعد التقني، بل يشمل أبعادا أخرى ذات طبيعة ثقافية، واجتماعية، واقتصادية، وعسكرية، وغيرها.
ب- القوة السيبرانية: التي عرفها جوزيف ناي بأنها «مجموعة الموارد المتعلقة بالتحكم والسيطرة على أجهزة الحاسبات والمعلومات، والشبكات الإلكترونية، والبنية التحتية المعلوماتية، والمهارات البشرية المدربة للتعامل مع هذه الوسائل».
ويُعد «الصراع السيبراني» حالة من التعارض في المصالح والقيم بين الفاعلين، سواء أكانوا دولا أم غير دول في الفضاء الإلكتروني. لكن وبرغم الآثار المدمرة لهذا النمط من الصراعات، فلا ترافقه دماء، وقد يتضمن التجسس والتسلل إلى مواقع الخصوم الإلكترونية، وقرصنتها، دون أنقاض، أو غبار. كما أن أطرافه يتسمون بعدم الوضوح، وتنطوي كذلك تداعياته على مخاطر عدة على أمن الدول، سواء عن طريق التخريب، أو استخدام أسلحة الفضاء الإلكتروني المتعددة.
وتختلف أهداف الحروب الإلكترونية وفقا لطبيعة أهداف الصراعات السيبرانية، فهناك صراع سيبراني ذو طبيعة سياسية، حيث تحركه دوافع سياسية، وقد يأخذ شكلا عسكريا يتم فيه استخدام قدرات هجومية ودفاعية عبر الفضاء الإلكتروني بهدف إفساد النظم المعلوماتية، والشبكات والبنية التحتية. وهناك صراع سيبراني ذو طبيعة ناعمة، أي الصراع حول الحصول على المعلومات، والتأثير في المشاعر والأفكار، وشن حرب نفسية وإعلامية.
ويوجد صراع سيبراني على المعلومات والاستخبارات. يسهم في دعم قدرة الأجهزة الأمنية للدول، أو الجماعات المختلفة، على تشكيل شبكة عالمية من العملاء بدون تورط مباشر، بالإضافة إلى رخص التكلفة، وسهولة الاتصال، وصعوبة الرقابة التقليدية على التفاعلات الإلكترونية.
وثمة عدة أنماط للحروب السيبرانية تبعا لدرجة شدة الصراع، ومن أبرزها: الحرب السيبرانية الباردة منخفضة الشدة؛ نمط الحرب السيبرانية متوسطة الشدة، الحرب السيبرانية «الساخنة» مرتفعة الشدة، ينطوي على سيطرة البعد التكنولوجي على إدارة العمليات الحربية، حيث يتم استخدام الأسلحة الإلكترونية فقط ضد منشآت العدو، وكذا اللجوء إلى الروبوتات الآلية في الحروب والطائرات دون طيار، وإدارتها عن بعد، بخلاف تطوير القدرات في مجال الدفاع والهجوم الإلكتروني، والاستحواذ على القوة الإلكترونية.
ويُعتقد أن اتساع علاقة الدول بالفضاء الإلكتروني، وما خلفته من حروب سيبرانية أدى إلى جملة من المخاطر والتداعيات على تفاعلات السياسة الدولية، من أبرزها: تصاعد المخاطر الإلكترونية، خاصة مع قابلية المنشآت الحيوية (مدنية وعسكرية) في الدول للهجوم الإلكتروني عليها عبر وسيط وحامل للخدمات، أو شل عمل أنظمتها المعلوماتية، الأمر الذي يؤثر في وظائف تلك المنشآت. وعزز الفضاء الإلكتروني ما يسمى بـ«القوة المؤسسية» في السياسة الدولية، وهي تعني أن يكون لها دور في قوة الفاعلين، وتحقيق أهدافهم وقيمهم في ظل التنافس مع الآخرين.
ويضاف إلى ما سبق، عسكرة الفضاء الإلكتروني، وإدماجه ضمن الأمن القومي للدول، وذلك عبر تحديث الجيوش، وتدشين وحدات متخصصة في الحروب الإلكترونية، وإقامة هيئات وطنية للأمن والدفاع الإلكتروني، والقيام بالتدريب، وإجراء المناورات لتعزيز الدفاعات الإلكترونية، والعمل على تعزيز التعاون الدولي في مجالات تأمين الفضاء الإلكتروني، والقيام بمشروعات وطنية للأمن الإلكتروني. أي دخول العالم سباق التسلح السيبراني الذي لا توجد آلية للحد منه ومراقبته على غرار حالة الأسلحة النووية.
إجمالا، بدأ الحديث عن القوة الإلكترونية أو السيبرانية والحروب السيبرانية والصراع السيبراني والردع السيبراني والدبلوماسية السيبرانية والجيوش والميليشيات الإلكترونية، وضرورة إنشاء أحلاف عسكرية إلكترونية. وبطبيعة الحال لن تمر هذه المفاهيم مرور الكرام على الشرق الأوسط وصراعاته، بل ستدفع القوى الرئيسية فيه إلى توطين اقتصاد المعرفة ونسج التحالفات والشراكات مع القوى السيبرانية الثلاث الكبرى، أي الولايات المتحدة والصين وروسيا، وثمة مؤشرات قوية تفيد بانطلاق سباق تسلح سيبراني وحدوث هجمات ومناوشات في الفضاء السيبراني تُنذر بحروب قادمة بلا ضحايا ودماء، لكن محاورها وجبهاتها الرئيسية هي المصالح والإرادات والعقول والقلوب التي لن تهجر جغرافيتها نحو فضاء سيبراني.