كنا ما يقرب من الخمسة في المجلس الصغير الخاص، عندما دخل إلينا معالي فضيلة الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس، وله في القلب محبة وفي وجداني هيبة، ساهم في تضخمها أنني لم أقابله من قبل. كسر فضيلته رهبة اللقاء بابتسامة وسؤال شخصي عن الأحوال، وبطرفة شاردة لم تأخذه للابتذال ولم تبعده عن الوقار في المشوار القصير، همس في أذني بنصيحة عالم رباني لن أنساها ما حييت، ثم زاد عليها بعبارة تشجيع وهو يقول لي: أنت يا علي أحد الكتاب المؤثرين في مجتمعهم، ولا بد أن تكون قدوة في الكلمة، وأنا أحد من يقرأ أغلب ما تكتب. أعرف جيداً أنه أراد أن يمنحني شرف متابعته رغم أنني أعرف أن طبيعة عمله الشاقة المنهكة قد لا تسمح له بقراءة أي كاتب. هؤلاء هم صورة علمائنا الذين نعرف. في ذات المساء، وبالصدفة قابلت الآخر الشيخ عبدالله المطلق، وله في القلب منزلة عليا، وقد جمعتني به من قبل «أبجدية» الاسم جيرانا على طاولة ثلاثة حوارات وطنية. وفي غمرة الزحام الشديد من حوله يبادرني بالسؤال «وينك يا القطوع.......»، ثم يقول بارتقاء النصح والتوجيه «تعجبني من مقالاتك 98 %، ولكن انتبه جيداً لتراجع الباقي من الـ2 %». أجبته: يا والدي وشيخي وأنا لا يعجبني من مقالاتي أكثر من 10 %، وهذا أنت تفوقني في نسبة الإعجاب.
في الطريق إلى المطار جلست أقلب السؤال المؤلم: كيف أضعنا هذه السلفية السمحة المعتدلة؟ وكيف أصبحنا مستوردين للأفكار والمدارس والحركات، وبيننا مثل هؤلاء الكواكب ولدينا منهجنا الذي لا يصح ولا يقبل معه أن نستورد؟ والجواب أبسط مما نتوقع تحت ضغط التوسع في التعليم الجامعي والشرعي بالتحديد، لم نكن أكثر صبراً وتمهلاً ورؤية وروية. تحت ضغط التوسع، كنا بحاجة إلى ملء آلاف القاعات والفصول بالأساتذة الذين كنا نأتي بهم من كل فج وملة ومذهب ومدرسة، وكنا معهم نضع اشتراط الوهم أن تكون السلفية الحميدة هي الدرس والمنهج. تماماً مثلما تقول للطباخ: استعمل آنيتي ولكنك لن تستطيع لا في المقادير ولا فيما يطبخ. ولعله لهذا السبب أصبحنا مختبراً لكل شيء. السلفية التي نعرفها وعاش عليها أهلنا بكل سماحتها واعتدالها لم تعد بأكثر من جزء شارد من مقادير هذه الطبخة. وأكثر من هذا، وللأسف الشديد، أن هذا التكوين المختبر الهجين من كل شيء يصر على حمل اسم «السلفية» رغم الميل الواضح عن سلفية ما عشنا عليه وما نعرف. وكل ما أخشاه أن يتقادم بنا الزمن ليصبح مثل هؤلاء العلماء الكبار غرباء تحت ضغط «المستورد» وضجيج وإثارة كل ما نعرف.