حركة التنمية البشرية وإثراء المجتمع بالمتعلمين في أرقى الجامعات والمراكز العلمية، تعكس تطورا حتميا في الوعي، وتجعل الناس أكثر جاهزية لقبول التغيرات

تسمية الليبراليين والإسلاميين تسهم في خلق المزيد من الأزمات، فليس هناك ليبرالي وفق مبادئ الليبرالية السائدة يرفض النظام السياسي الديمقراطي، وليس هناك ليبرالي يحارب حرية الآخرين حتى وإن كانت بمنطلق لا حرية لأعداء الحرية، والتي يمكن أن تلغي الليبرالية، كما أن من المحسوبين على الليبرالية من يعادي الوطن والعروبة والقبيلة، كما أن الإسلاميين لهم توجهات ومذاهب، فمنهم مع السلام والإنسانية والحرية، مما يجعلهم أقرب إلى المبادئ العامة لليبرالية، ومنهم مع تطبيق الشريعة بقوة الدولة، ومنهم مع تطبيقها بقوة الطغيان، ومنهم مع الإرهاب، كما أن الدولة الوطنية قد تكون في صلب توجهات بعض من يطلق عليهم بالإسلاميين ولكنها تضيع مع التوجه الأممي لآخرين يحسبون على نفس التيار.
التيار الإسلامي متنوع المذاهب، فهناك الشيعة والسنة، ومن الشيعة من يقف بصف العدو الفارسي، على سبيل المثال ضد الدولة العربية السعودية، ومن الشيعة من يقف مع العروبة ومنهم من يقف مع الدولة الوطنية والعروبة معا. أما الليبراليون فمنهم من يقف بصف التغريب الشامل والتعامل مع الغرب كنموذج القدوة الكاملة.
التسمية الأدق هي التي تشمل التيارين هما الحداثيون والمحافظون، فالحداثي هو الذي يتجه إلى التحديث والتطوير وقبول المتغيرات، أما المحافظ فهو الذي يتجه إلى التمسك بالعادات والتقاليد والموروثات. وهذان التياران يتواجدان في كافة المجتمعات، فالمحافظون هم الجمهوريون في أميركا، والحداثيون هم الديمقراطيون. أحيانا نسرف في الانشغال بالأيدلوجيا، ونعيش صراعات بين النظرية الإسلامية والنظرية العلمانية على حساب التنمية الشاملة والتي تشغل أغلب المجتمع. المجتمعات تسير وفقا لقوانين، فهناك حركة للتاريخ تطحن أعداءها، وأقوى حركات التاريخ هي التغيرات الاقتصادية، وهي التي فرضت على سبيل المثال حاجة المجتمع السعودي لنشاطات ترفيهية وسياحية داخلية لتقليل الهدر الاقتصادي الشامل، واستباقا لأزمات مستقبلية مقبلة تتعلق برفاهية المجتمع، كما أن حركة التنمية البشرية وإثراء المجتمع بالمتعلمين في أرقى الجامعات والمراكز العلمية، تعكس تطورا حتميا في الوعي، وتجعل الناس أكثر جاهزية لقبول التغيرات وتخفف حتى من الاحتقان ومن الاتجاه إلى الإرهاب.
الدولة السياسية هي الخيار الأفضل قبل سلطة النخب المؤدلجة، فسياسة الدولة التي توافق بين التيارين هي السياسة الأنجع.
الغالبية العظمى من الشعب ليسوا من دعاة الأيدلوجيا، وهم مستعدون لقبول كافة المتغيرات، أما الصراع بين التيارين فيجب أن يحدث ويجب أن يستمر كحال أي مجتمع إنساني حيوي، ولكنه يجب ألا يتطرف وألا يتجه إلى الإقصاء الشامل، فظهور ما يسمى بالتيار الليبرالي وهو ليس أكثر من تيار الحداثة الحتمي لم يبرز أكثر إلا بسبب متغيرات المجتمع.
قضايا مثل تقديم الدولة الوطنية وإقرار قيادة المرأة للسيارة، وزيادة حصص التعليم الطبيعي والإنساني في التعليم، وحتى إثراء المجتمع بالترفيه والحفلات الغنائية، ليس بالضرورة أن تكون قضايا يتبناها التيار الليبرالي أو الإسلامي. إذا انتقلنا إلى قضايا أخرى كشواطئ التعري بمختلف مستوياتها والدعارة والخمور فهي قضايا ليست محلا للنقاش في السعودية بين كافة التيارات، وبالتأكيد فهناك قلة قد تؤيد هذا الانفلات، ولكنها ليست بالضرورة صفة تميز كافة الحداثيين أو من يطلق عليهم بالليبراليين.
التيار المحافظ بدوره يسهم تماما في الحفاظ على القيم والتعاون والتكاتف القبلي، أما التيار الحداثي فيسهم بالتطوير والتقدم وزيادة التعلم، وتناغم التيارين يعكس استقرار المجتمع، وكلما زادت الهوة بينهما كان المجتمع مهددا في ذاته ووجوده.
الانشغال بالأيدلوجيا والذي جاء على حساب التنمية الشاملة ضيع أحيانا بوصلة الأهداف التي يبحث عنها المجتمع، فنحن بشكل عام نحتاج إلى المزيد من التقدم الاقتصادي وتنويع مصادر الدخل والاستغناء عن الدخل الريعي، وهذا بدوره سينعكس على مستوى وعي وتحضر المجتمع، أو العكس، كما أننا بحاجة قبل ذلك لدولة قوية ومستقرة وآمنة ويعيش فيها المجتمع مطمئنا بغض النظر عن المشاركة بالحكم، فالدولة الملكية أثبتت نجاحها كثيرا، والنظام القبلي أثبت فعاليته لعديد من المرات في التحالف مع الدولة القوية، ونحن بحاجة لمزيد من التعليم الجيد والقائم على تنويع القدرات والمهارات والتهيئة لسوق العمل، ونحن بحاجة للاستمتاع بالحياة عبر أشكال عديدة من الرفاهية والاستجابة لمتطلبات المجتمع في الرفاهية، ونحن بحاجة لحل المشكلات التنموية التي نواجه بامتلاك القدرة النوعية والعلمية والاقتصادية على ذلك، ونحن بحاجة لقوة عسكرية رادعة وبحاجة لصحة متقدمة، ومن خلال هذه المتطلبات فنحن بحاجة لمحاربة الفساد والمزيد من تطوير آليات وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وتطوير آليات العدالة لتكون أكثر قدرة في الاستجابة للمتغيرات.
وبناء على هذه المطالب فهناك ثوابت منها الدولة الوطنية والعروبة وحتى القبيلة ومعها الدين والتي تشكل جزءا من مكونات المجتمع، وهي ثوابت يجب أن تكون المحور لانطلاقنا ووجودنا وحياتنا، ولكن دون أن تتحول وسيلة للقضاء على تنوعنا وثرائنا وأهدافنا.
تلك الأهداف يجب أن تكون في مقدمة المطالب، ويمكن أن تنفذ مع أي نظام أو سلطة أو أيدلوجيا، وإذا كانت هناك أيدلوجيا معينة تحارب هذه المطالب فحربنا يجب أن تكون على أعدائها، سواء كانوا ليبراليين أو إسلاميين، وأن تكون له الغلبة، لا أن تكون الغلبة لمن يريد تطبيق نموذج داعش، أو لمن يريد محاربة قيم المجتمع وتدينه وعروبته.