لم يدر بخلدي يوما أن تطأ قدماي أرض القوقاز.. ممر طريق الحرير الغني عن الوصف والتوصيف.. ومسرح عمليات البلاشفة أسياد القتل والتسلط والجبروت.
أرض تحمل التاريخ في كفة وتتباهى بالجغرافيا في الكفة الثانية.. جورجيا الدولة الصغيرة بين فكين كبيرين (روسيا الاتحادية شرقا وتركيا غربا)، وما تبقى منها فهو يكتسي ظلمة البحر الأسود الذي ينتهي بمخنق البسفور التركي.
جغرافيا يحكي كل شبر منها حكاية لا يمل المنصت من سماعها.. تعقيدات تاريخية تتلطخ بالدماء تارة وتتوشح الورد والفواكه تارة أخرى، نزلت في (تبليسي) عاصمة جورجيا وأنا أقول لمرافقي لعله اسم (عالم مسلم) قبل أن يبدد كامل ظنوني (علي عمر) الشاب الجورجي المسلم برده على سؤالي عن معنى هذه الكلمة بأنها تعني (الينابيع الحارة) التي يقصدها من تحجرت ركبتاه ووهن عظمه وبلغ من الكبر أو المرض عتيا!
جمال يأخذ بالألباب في هذا البلد الصغير.. وانشراح في أخلاق أهله المرحبين بالأجانب من كل الدنيا ماخلا الروس الذين أذاقوهم هم الليل وذل النهار!
بنبرة يعلوها الفخر الذي لا ينقطع تحدث معي (قورجي) سائق التاكسي اللطيف وهو يأخذني في جولة حول المدينة، فيشير إلى أماكن لا يمكن لرأسه العظمي النحيل أن ينساها فيقول: هنا أسقط الروس قنبلتين لكنهما لحسن الحظ لم تقتلا أحدا بخلاف تلك التي في جنوب البلاد والتي ذبحت أناسا كثيرين، ويمضي في جولة التاريخ فيقول وهذه تبليسي القديمة، هنا نبيع الصوف والحرير ونأكل (الخاشبوري) والـ(خنكاري)، وهنا نرسم ونلون وننحت ونزخرف! وفي أثناء نشوته بحديثه عن بلده يشير إلى مكان ما ويحاول أن يشحذ مفردات تزيد الوضع تعقيدا فيقول: هل تعلم أن (ستالين) من جورجيا؟ أصبت بالذهول وقتها وأنا أسترجع تاريخ ستالين الذي دك الأرض بقسوته ورجح كفة الروس على دول المحور في الحرب العالمية الثانية، وترك أثرا في العالم بأكمله بعد أن نقل روسيا من حقول الزراعة إلى أزيز المصانع ودخانها! لا بأس كل شيء هنا يأخذ من المفاجأة عنصرا أساسيا!
وتفتح دور الحكومة أبوابها في صباح يوم جديد فلا تكاد تسمع همسا.. هدوء خِلْت معه أن جورجيا بلا مدارس ولا مستشفيات ولا مال ولا أعمال، ولم يبدد حيرتي سوى معرفتي أن عدد سكانها لا يكاد يصل إلى 4 ملايين نسمة من كافة الأعراق والأجناس.
مبان قديمة في المجمل.. وحياة حديثة بكامل المشهد.. صراع بين فقر قائم في المال وغنى في العقول والأفكار.. الجميع مصمم على خلق جورجيا الجديدة بدءا من رئيس البلاد إلى سائق التاكسي.. لا حديث لهم جميعا سوى مستقبل جورجيا.. جورجيا الجديدة.. خطط الحكومة ودور العامة والخاصة.
وفي حديث مدير جامعة البحر الأسود الدولية التي عقد فيها مؤتمر اللغة الإنجليزية بمشاركة أكثر من 28 دولة، يقف ذلك الشاب الجورجي ليقولها بصراحة ترفع لها الأوسمة قبل القبعات، بأن جامعته ليست سوى رافد بسيط من روافد السعي نحو نماء ورخاء وازدهار جورجيا.. بل ويؤكد أن الجامعة لا تزال متأخرة بحثيا وعلميا مقارنة بكثير من الجامعات العالمية.. ليختم، وقد صعقني بحكمته وأناته وهو يأمل منا كزوار لجورجيا أن نبلغ من عرفنا ومن لم نعرف أن جورجيا صغيرة المساحة لديها 48 جامعة في كافة فروع المعرفة، ترحب بالجميع وتنتظر الجميع وتسعد بتقديم تسهيلات لا حصر لها لمن أراد أن يدرس في أي شبر من تلك البلاد!