المدينة المنورة بعمومها حباها الله بكثير من المناقب التي ليست لغيرها من المدن، وأعطاها الله ميزة خاصة من حيث السكنى فيها، وزيارتها، واستنشاق جوها، وأكل تمرها

بعض أنواع العلوم علوم تشتت من يسمعها، ولا طائل من وراء بثها، ويمكن أن تصنف تحت بند العلوم غير النافعة، ولاسيما أنها لن تضيف إلى هذا الكون شيئا من الجمال، بل تكرس فيه ـ أي الكون ـ مبدأ الوصاية الفكرية، شاء من شاء، وأبى من أبى.
من هذه العلوم غير النافعة مثلا، أن يصرف الإنسان جهده في محاولات إثبات خطأ ما اجتمعت الأمة على قبوله، وارتضت منذ القدم فضله؛ فينتج عن ذلك بلبلة لا يعرف آخرها من أولها، ومن ذلك ما انتشر بين الناس مؤخرا
عن عدم وجود أي فضل لمن يسر الله له الدفن بالبقيع، في المدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، والاستماتة في نفي فضائل مدينية أخرى، لم يجرؤ أحد من سلف القرون السابقة على محاولة النيل منها أبدا.
المدينة المنورة بعمومها حباها الله بكثير من المناقب التي ليست لغيرها من المدن، وأعطاها الله ميزة خاصة من حيث السكنى فيها، وزيارتها، واستنشاق جوها، وأكل تمرها، بل وبشر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأن الله تعالى جعل الإيمان يأرز إليها، ويستقر فيها؛ أما مقبرتها المسماة بالبقيع، فأمر خصوصيتها، ومزيد فضلها لا يخفى على أحد.
اختار صلى الله عليه وسلم مقبرة البقيع كمدافن لأهل المدينة المنورة، وحددها له ربه سبحانه وتعالى؛ فقد روى الإمام الحاكم، أنه صلى الله عليه وسلم، كان يرتاد لأصحابه مقبرة يدفنون فيها، فكان قد طلب نواحي المدينة وأطرافها، ثم قال «أمرت بهذا الموضع»، يعني البقيع، وروى الإمامان الترمذي وابن ماجة وغيرهما أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ، أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَفْعَلْ، فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ مَاتَ بِهَا»، وأظنه خير دليل على فضل ما نحن بصدده، كما روي أن عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم قال «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، ثُمَّ أَبُوبَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ آتِي أَهْلَ الْبَقِيعِ فَيُحْشَرُونَ مَعِي، ثُمَّ أَنْتَظِرُ أَهْلَ مَكَّةَ حَتَّى أُحْشَرَ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ»، وحكم العلماء على الحديثين الأخيرين بأنهما من نوع الحديث الحسن.
أنا هنا ليس لأكتب عن أدلةٍ لفضائل تلقتها الأمة بالقبول، إنما أريد صيانة العلم الشرعي من أن يكرهه الناس؛ فقد سمعت بأذني من يلقي اللوم على الأئمة، والخطباء، والعلماء في تشتيت عقول الناس، وبصراحة أنا لا ألوم من يقول ذلك؛ ولا سيما أن همَّ مجموعة ممن أعرف من طلبة العلم ـ بنية وبغير نية ـ هو التنفير من الفضائل بالجملة، مع أنه يكفيهم إن أصروا على أن يخوضوا فيها، أن يقولوا «هناك رأي آخر».