الدراسات المسحية يفترض أن تقدم المعلومات الإمبريقية (المعلومات الناتجة عن ملاحظة أو تجريب) والتي يفترض أن تكون مادة النقاش والجدل. بلغة جون ديوي الدراسات الإمبريقية تجعلنا أمام سؤال: ثم ماذا؟ So What?. بحسب ديوي، بعد أن عرفنا الواقع نطرح السؤال المهم: ماذا نفعل حيال هذا الواقع؟ هنا نحن أمام خطوتين أساسيتين للتفكير: التعرف على الواقع ثم مناقشة هذا الواقع. سلسلة التفكير تستمر مع تقديم أطروحات بخصوص هذا الواقع ومن ثم اختبارها بالعودة للواقع ذاته. فكرة مقال هذا اليوم أن الدراسات الوصفية المسحية لا تساعد على تنفيذ نمط التفكير هذا. الإشكالية الأولى أن الدراسات المسحية الوصفية لا تقدم لنا حقيقة معلومات إمبريقية. لاحظ أن الدراسات المسحية الوصفية لا تقوم على الملاحظة ولا على التجريب. جل ما تقدمه لنا هو استفتاءات تعكس توجهات عينة الدراسة (على فرض دقة هذا القياس). هذا يعني أن الدراسات المسحية الوصفية تقدم لنا معلومات غير مباشرة أو يمكن تسميتها بمعلومات الدرجة الثانية. أعني بهذا أنه إذا كان سؤال البحث عن الثقافة الصحية في المدارس فإن الدراسات المسحية الوصفية تقدم لنا الثقافة الصحية في المدارس من وجهة نظر المعلمات أو من وجهة نظر الطلاب. الدراسة هنا لا تتوجه مباشرة للتجربة المدرسية والسلوك الأولي للطالبات لترصد دلالاته على الثقافة الصحية ولكنها تتوجه إلى مصدر يفترض أن يكون قد لاحظ تلك الظاهرة. هنا المشهد شبيه بمحقق ليس لديه معلومات عن الحادثة إلا المعلومات المقدمة من الشهود. المحقق هنا بلا وقائع مباشرة عن الحادثة. هذا بالتأكيد يجعله خطوة أبعد عن الواقع ويجعله تحت رحمة صدق ودقة المعلومات التي سيحصل عليها من الشهود.
من مارس هذا النوع من الدراسات يعلم أن الجهد الأكبر والطاقة الأثمن تذهب في إجراءات وأساليب الحصول على المعلومات من عينة الدراسة والقليل جدا من الطاقة يذهب لتحليل تلك المعلومات وبناء التوصيات عليها. بل إن القسم المخصص لتحليل النتائج والتوصيات ينظر له على أنه القسم الذاتي من البحث، وبالتالي الأقل قيمة. القيمة الأعلى تذهب للقسم «الموضوعي» الذي يفترض أن يكون مدعوما بالأرقام والمعادلات والجداول الإحصائية. هذا يعني أن الدراسات الوصفية المسحية تقف، في أحسن أحوالها، عند الخطوة الأولى من خطوات التفكير العلمي، خطوة التعرف على الواقع. المفترض أن تتبع هذه الخطوة خطوات أخرى تقوم بتحليل تلك المعلومات وبناء نظريات ومواقف بناء عليها ولكن هذا لا يحدث. الذي يحدث أن بقية الباحثين يعيدون ذات الخطوة على عينة جديدة. أي أنهم يتحركون باتجاه جمع معلومات جديدة لتوضع جنب تلك السابقة. لا بد هنا من الإشارة إلى أن رسائل الدكتوراه تحديدا تسعى لتقديم تصورات مقترحة كتطبيق للاستفادة من المعلومات التي تم رصدها. من ناحية الفكرة فهذا الإجراء يسير فعلا باتجاه متابعة التفكير العلمي في القضايا المطروحة، لكن الواقع يقول إن الأمور لا تسير دائما في ذات الاتجاه. الذي يحصل أن التصورات المقترحة قد تصبح مجرد صيغة أخرى من تقديم المعلومات التي تم جمعها. أي أن يصبح التصور المقترح هو مجرد كتابة ثانية للمعلومات التي تم جمعها وليس أخذا لتلك المعلومات خطوة للأمام.
هذا قد يشرح إلى درجة معينة غياب حالات الجدل والحوارات العلمية من السياقات التي تسيطر عليها الدراسات المسحية الوصفية. أقصد بهذا أنك لا تجد في تلك السياقات مواقف فكرية محددة ومبررة من الأسئلة الرئيسة في مجال البحث. مثلا تجد في أقسام الفلسفة التي تدرس سؤال حرية الإرادة تيارات ومواقف من هذه القضية. كل تيار يحرر مواقفه ويدخل في جدل مع التيارات الأخرى. في المقابل نجد أن الأقسام العلمية التي تسيطر عليها الدراسات الوصفية المسحية لا تتوفر فيها أجواء مشابهة. تفسيري هنا أن تلك الأقسام تستنفد أغلب طاقتها في جمع المعلومات من خلال استطلاع آراء العينات. الطاقة الهائلة تذهب لمحاولات ضبط الإجراءات الإحصائية ومواجهة المشاكل الناتجة عن عمليات صياغة أسئلة الاستبانات والاستجابات التي يتم تحصيلها على تلك الأسئلة. هذا الوضع أحال كثيرا من المشتغلين والمشتغلات في هذه البحوث إلى تقنيين وتقنيات تجد لديهم حرفية عالية في الإجراءات الإحصائية وتصميم أدوات الدراسة لكن لديهم فقر هائل جدا في: أولا الأطر النظرية التي تتحرك فيها دراساتهم، وثانيا القدرات على التحليل والخروج بنتائج ومواقف نظرية من دراساتهم. هذا أيضا يمكن أن يفسر إلى درجة ما طبيعة التواصل الذي يجمع العاملين والعاملات في مثل هذه السياقات، حيث يغلب عليه أنه تواصل تكنوقراطي مشغول بقضايا إدارية وتنظيمية أكثر من كونه تواصلا معرفيا فكريا. هذا يمكن أن يفسر لنا إلى درجة معينة لماذا تنتج الأقسام الإنسانية (الأقسام التي لا تزال تطبق مناهج البحث النقدية والنظرية)، فاعلين اجتماعيين لهم مشاركات ومواقف فكرية واجتماعية معلنة، بينما يبتعد المتخصصون والمتخصصات في الدراسات المسحية الإحصائية عن النشاطات الشبيهة. باختصار الدراسات الوصفية المسحية تضعف قدرة الباحث عن المجادلة والتفكير النظري واتخاذ المواقف.