المجتمع السعودي مثله مثل أي مجتمع إنساني آخر هو خاضع للشروط التاريخية التي تخضعه للسير في طرق أخرى قد يرضاها وقد لا يرضاها، لكنه بالتأكيد متى ما وجد الفرصة لأن يتقدم إلى الأمام فإنه لن يتردد
منذ فترة وأنا أفكر في الحراك الجديد في السعودية بعيداً عن الصراع على مدى ما يحصل منذ أشهر من ناحية تلك المهرجانات التي تحصل في كل مكان. الحديث عن مهرجان محدد قبولا أو رفضا لن يكون مفيداً في المقال اليوم لأنه سوف يدخل في منطقة الصراع التي أكدت على مدى ابتعاد المقال عنها، لكن يمكن أن يثير المقال فكرة لا يتفق معها البعض، ولذلك يمكن أن تكون الاعتراضات عليه كثيرة، وهذا أمر طبيعي وصحي بالتأكيد، فالفكرة لم تخضع لإحصاءات طويلة وعريضة والسبب ببساطة أنه لا توجد لدينا لا مؤسسات ولا أفراد إحصاءات يمكن الاعتماد عليها أو الوثوق بها بل حتى استفتاءات تويتر ليست دقيقة، ولا يمكن الاعتماد عليها لكونها فضاء افتراضيا العبث فيه أكثر من الجدية، إضافة إلى عدم وضوح تلك الاستفتاءات، ولذلك فالمقال سيعتمد على الملاحظة أكثر من غيرها، وإن كانت الملاحظة غير دقيقة، وستكون النتائج غير صحيحة كذلك لعدة أسباب لعل منها أنه لا يمكن تعميمها على الحالات الأخرى في المجتمع لكونها غير خاضعة للاختبار، إضافة إلى أن مدة حراك السعوديين مؤخراً قصيرة بالنسبة لعمر الحراك، والأهم من كل ذلك أن الملاحظة قد تكون خاضعة لعين الملاحظ مع تغافل الحالات الأخرى، فإنسان يرى ما يتصوره أكثر من حقيقة الأمر، ولكنها الطريقة الوحيدة الموجودة حتى الآن للتفكير في المجتمع السعودي، والتفكير فيه لا أقصد التفكير في الحكومة، أو مؤسسة الدولة التنظيمية، ولا التيارات المختلفة وإنما في القطاع العريض من الناس الذين تتصارع التيارات من أجل جعلهم في خانتها تأييداً لتيار أو رفضاً لآخر، وأزعم (وهو زعم لا أمتلك عليه أدلة) أن المجتمع غير مشغول كثيراً بصراع التيارات ومدى تحقيقها أكبر قدر من الأتباع لا في الاتجاه الديني ولا الاتجاه الليبرالي أو الاتجاه العروبي وإنما التفاعل مع أحد هذه التيارات عائد إلى الحدث نفسه الذي لا يمكن أن يكون مؤثرا في انحياز الناس إلى تيار أو آخر.
والفكرة من هذا المقال هي طرح فرضية أن المجتمع، وأعني به هنا الناس كما وضحت في الفقرة السابقة، لديه قابلية للانفتاح، كما كانت لديه قابلية سابقاً للانغلاق حسب الظروف التي مرت أو تمر على المجتمع، لكنه ليس سريعا بالتأكيد، لكن تبقى القابلية موجودة لكلا الأمرين ولكن تم تحديد القابلية للانفتاح في هذا المقال بحكم التحولات قريبة للمجتمع والملاحظة بشكل واضح في أكثر من مكان خاصة في تلك الوفود الكبيرة التي تحضر الحفلات الغنائية بعد أن كانت ممنوعة من الحضور لأسباب عديدة ليس هنا مكانها، على رغم اعتراض بعض التيارات على ذلك. صحيح أنه يصعب جعل حضور الاحتفالات الفنية في أكثر من مكان هو الدليل الأكبر على القابلية للانفتاح، وإنما هو مثال لهذه القابلية، لكن يجب ألا ننسى أن أعدادا غفيرة أخرى لم تحضرها ولم تعرفها لأي سبب آخر ولذلك يبقى مثالا وإن كان غير دقيق، والمثال يمكن رفده بأمثلة أخرى لتشكل ظاهرة مشاهدة رغم الكثير من الاعتراضات عليها، لذلك فإن قابلية المجتمع للانفتاح تقترب من قابليتهم للانغلاق حسب ما يمكن أن تكون عليه الظروف التاريخية، وليس الأمر عائد إلى قوة تيار على تيار أو طبيعة في المجتمع، وبالطبع فإن القرارات السياسية عامل كبير من العوامل المؤثرة على المجتمع.
إذا ما أعدنا النظر في حراك المجتمع السعودي فإنه من الصعب الحكم في تحديد هوية واحدة لا منفتحة ولا منغلقة، فبقدر ما نجد من أمثلة للانفتاح فإننا سنجد أمثلة للانغلاق، فبقدر ما نرفض الاختلاط مثلا في أي قطاع نجد المستشفيات مختلطة منذ سنوات، وبقدر ما نجد المجتمع يحضر الحفلات الغنائية سنجد كثيرين آخرين يتابعون شيخا محددا بالملايين ويعتقدون بصحة ما يقول رغم لا معقوليته، وبقدر ما يتفاعل المجتمع مع المقتنيات الحديثة ذات المسائل العلمية التطبيقية نجد عددا كبيرا منهم يؤمن بالخرافات ويؤمن بمنتج «الفازلين» المقروء عليه. لذلك من الاستعجال كثيراً الحديث عن هوية المجتمع القادمة بأنها هوية منفتحة، وأن مرحلة الانغلاق سوف تذهب ولن تعود، لكن المقال حين يركز على الانفتاح في مقابل تجاهل الانغلاق في العنوان فإنما هو يركز على وجود القابلية وليس على حقيقة الانفتاح نفسه.
نعم هناك قابلية للانفتاح، فالمجتمع يتغير ويتجاوز بعض قضاياه القديمة، فحتى الخطاب الديني نفسه يتغير والتغير طبيعة المجتمعات، فالحديث عن القابلية لا يعني الانفتاح كحقيقة حاصلة وإنما يتحدث عن الأرضية الصالحة للاستزراع متى ما رُعيت هذه الأرضية وتم تسويتها وبذرها وسقيها بشكل منتظم فإنها ستكون مزرعة منتجة، وأجد تشبيه المجتمع بالزراعة هو تشبيه قريب في أحد وجوهه.
القابلية للانفتاح هي انتصار للشعبي على النخبوي الذي كان يرى بالمجتمع حالة انغلاق تامة، وأن الخطاب النخبوي: سياسيا كان أو دينيا أو ثقافيا هو المنقذ له، فالمجتمع نفسه لديه هذه القابلية متى ما سنحت ظروفه التي عادة ما يحدها الخطاب النخبوي بتعليماته وشروطه العديدة، فالمجتمع السعودي مثله مثل أي مجتمع إنساني آخر هو خاضع للشروط التاريخية التي تخضعه للسير في طرق أخرى قد يرضاها وقد لا يرضاها، لكنه بالتأكيد متى ما وجد الفرصة لأن يتقدم إلى الأمام فإنه لن يتردد بحكم قابليته التي أكدنا عليها، فالعيب ليس فيه وإنما في الظروف التي تحكم مسيرته.