ما قاد إلى طرح رؤية 2030 هو أننا ثقافيا لم نتخط تلك الفترة الحرجة المؤقتة، حين تبنينا الثقافة الناتجة عن صدمة الطفرة واعتمدناها ثم بنينا عليها تراكمياً الكثير من المفاهيم
للاقتصاد تأثيره المباشر والسريع في الثقافة، وللثقافة تأثيرها المباشر في سلوكيات الناس وطبائعهم وفي قناعاتهم ومعتقداتهم، أما من يتبع الآخر، الثقافة أم الاقتصاد؟ فيُقال تنظيرياً إن الثقافة هي الدافع للتغير الاقتصادي، أما عملياً فالاقتصاد –بالنسبة للمجتمع السعودي- كان ولايزال هو الدافع للتغيير الثقافي، كما حدث في السبعينات حين دفعت الطفرة بأفراد المجتمع لتغيير منظومة أفكارهم وطبائعهم وأخلاقياتهم، تغييراً له جانبه السلبي الذي يبرز أكثر ما يبرز في طغيان النمط الاستهلاكي والاعتناء الفائق بالجانب الديني العقدي، الذي ترك أثره في شتى مجالات الحياة، ويحدث اليوم مع «رؤية 2030» أن الاقتصاد يعود مرةً أخرى ليجر الثقافة خلفه.هنالك فترة في المنتصف يمر بها كل مجتمع أثناء التحول من وضع اقتصادي إلى آخر، وهي فترة حرجة مؤقتة ولها ثقافتها المحددة المتسمة غالباً بالفوضوية، وفي رأيي أن ما قاد إلى طرح رؤية 2030 هو أننا ثقافيا لم نتخط تلك الفترة الحرجة المؤقتة، حين تبنينا الثقافة الناتجة عن صدمة الطفرة واعتمدناها، ثم بنينا عليها تراكمياً الكثير من المفاهيم والمعتقدات، بمعنى آخر أن رؤوسنا التي دارت مع الطفرة والثروة المفاجئة، كان من المفترض لها أن تستقر، لكننا تركناها تدور وتدور وخلال هذا الدوران بنينا معظم ثقافتنا، واليوم ها نحن نعيش أجواء الفترة الحرجة من جديد، وها هي رؤوسنا تدور مع هذا التغيير الاقتصادي، وها هي ثقافة جديدة تتشكل تحت قلق التقشف، فهل سنترك هذه الرؤوس في حالة دوران، أم سنمسكها ونثبت؟ جواب هذا السؤال سيحدد طبيعة ثقافتنا مستقبلاً، إما أن تكون ثقافة سلبية أو إيجابية.
ومن نماذج هذه الثقافة القلقة المضطربة أننا قد نجد إنسانا جامعيا رزينا، يستخدم الماء والكهرباء بترشيد لتوفير المال، ويلتزم بالقوانين والأنظمة المرورية فيربط حزام الأمان ولا يتجاوز السرعة المحددة تجنباً للغرامة المالية، ويمتنع عن القروض البنكية أو شراء بضاعة بالأقساط إلى آخر هذه السلوكيات الدالة على زيادة وعيه الاقتصادي، وفي المقابل نجد هذا الإنسان الجامعي الرزين، الواعي بالاقتصاد ومبادئ الترشيد، يتخلص فجأة من علمه ورزانته ويلقي بوعيه في أقرب مزبلة، ليذهب ركضاً خلف راقٍ شرعي كي يبيعه علبة فازلين مقرؤء عليها بـ50 ريالا، أو ينفث له في خزان الماء بـ900 ريال، أو يسلخ جلده بسيخ حديدي ساخن مقابل 500 ريال.. إلى آخر قائمة هذه الأساليب التي تجعل المتابع يتساءل في حيرة: ما الذي يدفع بإنسان يلتزم بربط حزام الأمان تجنباً لغرامة الـ100 ريال، أن يدفع 1000 ريال كي ينال البركة والشفاء من لعاب أحدهم؟ في رأيي أن المسؤول عن هذا التناقض اليوم، هو شبح التقشف الذي يجبر الكثيرين على الاقتصاد والتوفير وتجنب المغامرات المالية غير المحسوبة، وهو أيضاً مسؤول عن إدخال الكثيرين في دوامات من القلق والحيرة والاضطراب، فالطريق نحو 2030 لايزال في بدايته، وبدايته هي الفترة الحرجة، لهذا لا عجب أن نجد الإنسان المتعلم الرزين يقوم بالفعل ونقيضه في نفس الوقت، أن يقتصد بوعي بهدف توفير بضعة ريالات تضمن له راحة البال في المستقبل، وفي نفس الوقت يبحث عمن ينفث عليه مقابل مئات الريالات بحثاً عن راحة بال يفتقدها كل من يحاول السير نحو المستقبل، إلى هنا والحديث عن الضحية، فماذا عن الجاني؟ الجاني أيضاً يعيش هذه الأيام حالة من القلق على المستقبل، مضطرب من هذا التقشف المفاجئ، لكنه لا يربط حزام الأمان ليتجنب الغرامة المالية، إنما يحاول جمع الكثير من الأموال كي يتقي بها شر المستقبل، فينطلق لجمع المال مستغلاً حاجات الناس، متلاعباً بمشاعرهم، ينصب عليهم ويحتال ويكذب ويبدع ويبتكر في أساليب الدجل، يقرأ على الفازلين والعسل و(وايتات) الماء والخزانات وربما المياه الجوفية، ينفث النفثة يعالج بها السحر والحسد والاكتئاب والجلطات والروماتيزم والقلق والتوتر، ويخرج الجن والعفاريت من جسد الضحية، ثم يفسر الأحلام والرؤى ويعالج بالأعشاب والزيوت، إنه جائع، والجوع لا ضمير له ولا دين.
هذا نموذج واحد من ثقافة تتشكل اليوم أمام أعيننا، ثقافة تابعة للتغير الاقتصادي ومرتبطة به، ثقافة تتغذى على الاضطراب وتبني عليه، وهنالك عدة نماذج تقودنا إلى وجود قلق اجتماعي، فهل سنعيد غلطة الطفرة، بأن نتبنى ثقافة الفوضى ونبني عليها المزيد من المفاهيم والمعتقدات؟ ربما هذا ما سيحصل فعلاً، وربما كما تغذت الصحوة من الطفرة وتقوت بها، قد يصحو الدجل هذه المرة بسبب التقشف، ما لم تكن هناك قوانين رادعة في حق كل المتاجرين بالدين بائعي الأوهام، ما لم يعامل الراقي معاملة قارئ الكف والمشعوذ.