توفي الشاعر الكبير أحمد بيهان- رحمه الله – قبل بضعة أشهر في المدينة المنورة، بعد أن اختارها دار إقامته في السنوات الأخيرة من حياته، وأصدر عنها ديوانا عنوانه: «مدينة النور»، مما يعني أنه قد ارتبط بها وجدانيا، لكن الناظر في شعر بيهان يكاد يجزم بأنه لا يمكن أن يغادر أبها مختارا؛ ذلك أنه كان يكثر من تصوير حنينه إلى أبها، ويعبر عن ذلك تعبيراً مباشرا يعتمد على المعاني، وعلى حشد ألفاظ الحنين واللوعة والاشتياق، إلى الحد الذي يجعل القارئ يشعر ببكائه.
يقول الشاعر علي آل عمر عسيري عن حنين بيهان إلى أبها: «..وكما هي عادة أبناء هذه المنطقة، الحنين إلى أبها كلما عبسَ البين في وجه أحدهم، وهي عادة انتماء محمودة، فإن أحدهم وهو الشاعر أحمد بيهان لا يكتفي بإرسال أدمع شوقه، وحنينه، بل يشكو لوعة الوجد، ويبالغ في الشكوى»، وهذا ما يظهر في مثلِ قوله:
أحنُّ إلى أبها، وأبها بعيدةٌ..
على ناظريْ، لكنَّ قلبي لها مأوى..
تذكّرتُ أيامي بها حينَ داعبَتْ..
أكُفُّ الصّبا خدّ الأقاحِ. فما الفحوى؟
تَضوّعَ مِنها طيّبُ النبتِ بالشَّذَى..
وَهِمْتُ بها، ويحي، نزَحْتُ ولن أروى..
حنيني وقدْ ودّعْتُ أبها لغيرِها..
أشدُّ من الثّكْلى تُحيطُ بِها البلْوى..
أنشأ أحمد بيهان القصيدة التي منها الأبيات السابقة، وهو طالب بالمرحلة الثانوية، إذ أصدر ديوانه الذي تضمنها سنة 1391هـ، ولذا ظهرت عليها آثار البدايات، لكنها لم تخل من أسباب التأثير في وجدان المتلقي، وهو تأثير ناجم عن الصدق، وعمق التجربة الشعورية المؤسسة على تعلق عظيم بالمكان، نتج عنه بكاء شعري عند الابتعاد عنه.
بيهان المتوفى بعيداً عن الأرض التي أكثر من الحنين إليها، هو صاحب أشهر بيت في الحنين إلى عسير، وقد صدّر القصيدة التي حوته بقوله: «بعد سبع من السنين كتبت إليه تقول: إن لم تعد من أجلي فعد من أجل الأرض»، وهو هنا يكرر استخدام ثنائية: المرأة، والمكان التي تظهر عنده ظهورا واضحا في غرض الحنين، ومنها يقول:
أنا ما سلوتـُك يا عسيرُ وربَّما..
غارَ السموألُ من عظيمِ وفائي..
يا جنّةً أُبعدتُ عن ربـَواتها..
بِرِضَايَ.. يالشاوةِ الغـُرَباءِ..
إن شوق بيهان الجارف إلى أبها في قصائد متعددة، يقدح السؤال عما يدفع شاعرا متعلقا بأرضه إلى الهجرة؟ وهل كانت لسبب ديني جعله يختار مدينة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مهجرا؟ أم أن أبها التي يشتاقها إلى حد البكاء، كانت تنطوي على عوامل طاردة لشاعر حقيقي لم يطق الحياة في ظل الغبن أو التهميش أو عدم التقدير أو انعدام الوفاء أو كثرة الأدعياء أو غيرها من أسباب الشعور بالاغتراب النفسي؟
لا أستطيع الجزم بإجابة؛ لأنني سألته هذا السؤال في حياته، فأجابني بتهويمات مازحة هدفها عدم الإجابة، لكنني أستشف منها أنه شعر في أبها بغربة نفسية أجبرته على الغربة المكانية، والثانية أهون على النفس دون شك.
إن كان بيهان قد غادر أبهاه لشعوره فيها بالاغتراب النفسي، فذلك مؤلم الألم كله للعارفين بروحه الشفافة؛ لأن آلامه – في هذه الحال - تصبح شبيهة بآلامِ المنفيّ كَرهاً. يقول تعالى: ?وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ?، فالحياة تعادل البقاء في الدّيار، مما يعني أن الخروج منها يعادل الموت.
رحمك الله يا أبا شاكر، فقد كنت أسئلة في حياتك، وبقيت أسئلة بعد مماتك.