يؤكد المجتمع السعودي أنه مجتمع لديه ما لدى المجتمعات الأخرى من قابلية للانفتاح رغم ما فيه من محافظة، وكل عمليات الصراع بين الخطابات الدينية والليبرالية قد لا تمثل المجتمع أفضل تمثيل
صادف أن كنت متواجداً في الرياض في الوقت الذي افتتح فيه الأسبوع الثقافي الياباني في مركز الملك فهد الثقافي الذي ما زالت فعالياته تقام هذا الأسبوع وتنظمه وزارة الثقافة والإعلام، ومن الجميل أن كان افتتاح الأسبوع الثقافي بعرض رائع من قبل الفرقة اليابانية التي عزفت عدداً من المقطوعات الموسيقية العالمية في حوالي ساعة، وهي المرة الأولى في الرياض التي تعزف فيها فرقة عالمية على الجمهور السعودي بعد أن كانت مقصورة في أماكن خاصة ومعزولة عن الناس أو بتذاكر مبالغة لا يستطيع دفعها أغلب الناس، جاءت هذه الأوركسترا لتكون لحظة تاريخية، فارقة في الوضع الثقافي السعودي بفنونه وفعالياته، ولعلها تكون انطلاقة أكبر قادمة على مستوى السعودية كاملة وليست فقط على مستوى الرياض أو جدة أو الدمام بل تشمل مدن السعودية الأخرى بلا استثناء.
علامتان كانتا في ليلة الأوركسترا برزتا بوضوح جلي ولم تغب عن أذهان الناس في تصوري، العلامة الأولى هي أن المسرح على ضخامته امتلأ بكامله من الجمهور السعودي رجالا ونساء وأطفالاً، وهذه بحد ذاتها تجعلنا نعيد النظر في مدى قابلية المجتمع السعودي للفن وخصوصا لفن الأوركسترا الذي يعتبر غريبا على المجتمع السعودي، إذ لم تشهد السعودية من قبل فرقة عالمية تعزف أمام الجمهور الغفير من السعوديين، وإذا ما استثنينا فرقة عمر خيرت التي كانت مقصورة على عدد محدود من الناس في جدة، فإن الفرقة اليابانية هي الأولى التي خاطبت الجمهور السعودي بشكل مباشر.
قد لا يكون معظم الجمهور السعودي مثقفاً تلك الثقافة العالية بفن الأوركسترا والأوبرا، وأنا واحد منهم بالطبع، إلا أنه يبقى مجتمعا إنسانيا يحتك بكل المجتمعات الإنسانية الأخرى وأخذ من فنونها واستمع إلى ثقافتها الفنية ومن ضمنها الأوبرا، التي لابد وأنه استمع إلى بعضها، ولعل مقطوعة (بيقارو) المشهورة أو بعض مقطوعات موزارت شكلت ذهنية السعوديين في الاطلاع على هذا الفن، ومع ذلك فقد كان الجمهور السعودي على المسرح متفاعلا بشكل مدهش مع كل معزوفة، وخاصة تلك المعزوفة اليابانية التي هي بالطبع جديدة كل الجدة على الأذن السعودية، وقد حصلت هذه المقطوعة على تصفيق هائل لم تحصل عليه أي مقطوعة في تلك الليلة، وإذا ما استعرنا تأكيد الصديق الكاتب عبدالله المطيري على مفهوم الضيافة فقد تجلت ضيافة المجتمع السعودي للفرقة اليابانية بالاحتفاء خصيصا بتلك المعزوفة، ومن هنا يؤكد المجتمع السعودي أنه مجتمع لديه ما لدى المجتمعات الأخرى من قابلية للانفتاح رغم ما فيه من محافظة، وكل عمليات الصراع بين الخطابات الدينية والليبرالية قد لا تمثل المجتمع أفضل تمثيل.
العلامة الثانية في تلك الليلة هي أن التنظيم لم يكن بمستوى الحدث بمعنى أن هناك مشكلة في طريقة إدارة تنظيم حفلات بهذا المستوى من قبل وزارة الثقافة التي كانت المعنية بإقامة هذا الحفل، والإشكالية ظهرت من مدى تلك الأزمة القديمة المتجددة في الذهنية التنظيمية السعودية التي تجعل المراسيم أهم من الحفل، وتجعل الحفل الخطابي أهم من الحفل الأساس، وتجعل المسؤولين أهم من الفرقة الموسيقية، وأهم من الضيوف، وأهم من الجماهير الكبيرة في المسرح التي انتظرت قرابة الساعتين حتى يبدأ الحفل الخطابي ثم يبدأ الحفل الموسيقي، والسبب تأخر بعض المسؤولين عن الحضور رغم امتلاء المسرح، ما جعل الجمهور يقضي وقت الانتظار بالتصفيق اعتراضا على تأخر البدء بالحفل إلى درجة خروج بعض الناس قبله أو أثناء الحفل لتأخر الوقت، إذ ليس من المعقول أن يستمع الناس إلى ثلاث مقطوعات ثم يبدؤون بالخروج لتأخر الوقت، وكان من الأولى أن يبدأ الحفل كما هو مقرر الساعة الثامنة النصف وليس الساعة العاشرة والربع أو العاشرة والنصف؛ خاصة أننا أمام عينة من المجتمع الياباني الذي اشتهر عنه الدقة في المواعيد.
اعتراض الجمهور بالتصفيق قبل الحفل تحول أثناء البدء بالحفل إلى هدوء بالغ للاستماع إلى الموسيقى والاحتفاء بالمقطوعات تصفيقاً بعد انتهاء كل فقرة، ولا أدري عن انطباع الفرقة الموسيقية اليابانية عن التنظيم والحضور، لكن تحيتهم للجمهور السعودي في انتهاء الحفل توحي لنا بأنهم قد ثمنوا هذا الاحتفاء من قبل السعوديين، فأين كانت المشكلة؟ هل هي من قبل الجمهور الذي دائما ما يسقط عليه بعض المسؤولين قلة الوعي أم من المنظمين؟
أمامنا ثلاثة مشاهد: مشهد فرقة يابانية تعزف مقطوعات موسيقية عالمية تتخللها أوبرا على مسرح سعودي، والمشهد الثاني جمهور غفير من السعوديين ملأ المسرح قبل الوقت المخصص للعرض، وصفوف طويلة تنتظر دورها في الدخول خارج المسرح، ومسؤول ثقافي ينتظره الناس تأخر عن الفرقة والجمهور قرابة الساعة والنصف، ومع ذلك يذهب النقد تجاه الجمهور السعودي بأنه جمهور غير واع وغير راق وفوضوي. المشهد الأول يوحي بأن الفن لا يختص بناس عن ناس، فالفرقة اليابانية جاءت تعزف من أجل السعوديين، والمشهد الثاني يوحي بأن البشر متقاربون في إنسانيتهم وقابليتهم للتواصل، فالجمهور السعودي جاء ليتواصل مع الفن الياباني بكل بساطة وسهولة، والمشهد الثالث يوحي بأن بعض المسؤولين هم سبب الخلل في كثير من الأمور وليس الناس، إذ يتحول بعضهم إلى خدمة ذاته بدلا من خدمة الناس ويغضب من نقد المنتقدين.
ومع كل ذلك تبقى تلك الليلة ليلة فارقة في ذهن المجتمع السعودي بوصفها ليلة فنية تواصلية تعبر بكل صدق عن مدى قابلية المجتمع للتواصل والانفتاح والفن، بعيداً عن أي أسباب أخرى تبعدهم عن روح الإنسانية في دواخلهم.