لم تكن الموسيقى الأوروبية خلال ألف عام، وغيرها -عامة- في أزمان مختلفة ترفا أو ترفيها أو رفاهية، وإنما نشأت ووجدت تلبية لحاجات إنسانية في الانعتاق من الحدود المادية

مما قاله كونديرا عن الموسيقى في قراءاته التناصية بين الرواية والموسيقى «إن مقطوعات جانيكان مادام أنها تمس الجوهري في الوجود، فهي تتصف بالعمق»، وفي صدد تفريقه بين موسيقى الجاز وموسيقى الروك من حيث استجابة التلقي يقول «عندما يصفق الناس عادة في حفلات الجاز، فمعنى ذلك أنهم يقولون: إننا أصغينا بتقدير، بينما يغيب التصفيق في حفلات الروك، لأن المتلقي لم يوجد في هذه الحالة ليحكم ويقدر، وإنما ليستسلم -فحسب- لدهشة الموسيقى وليصرخ مع الموسيقيين ويمتزج بهم، حيث يدوي الإيقاع قويا ومنتظما، والموتيفات اللحنية قصيرة ومتكررة باستمرار، والغناء في لجة هذه الموسيقى يفضل طبقات الصوت الحادة الهائجة»، وهكذا يمضي حديث كونديرا غزيرا منسابا، إلى أن يصل إلى الموسيقي العظيم لديه، وهو سترافنسكي، محتفيا بالعلاقة التي تقيمها موسيقاه مع الحدث الطقوسي المتجسد بهول وجلال!
بعد أن أغلقت كتاب كونديرا لمحت في شاشة جهازي المتذاكي على بساطتي خبرا يفيد بأن «الرياض وجدة ستستضيفان خلال الشهر الجاري حفلين موسيقيين لعازف البيانو الشهير المجري بوغاني، وأن أسعار التذاكر ستكون في حدود الألفي ريال كحد متوسط لجميع الفئات»!
وكانت التعليقات على الخبر كثيرة ورافضة في مجملها للفكرة الموسيقية، ولكنها لم تكن على كل حال صادمة لي، والدليل أنني قلت في نثارات سابقة إن المشكلة التي أخشى منها، هي أن يكون مجتمعنا قد تآلف مع ذلك السكون والوحشة، بعد أن غيبته الصحوة المشؤومة في غياهبها المتوحشة أكثر من ثلاثة عقود ونصف من الزمن، للدرجة التي يتكفل -وأعني المجتمع ذاته- بتجريم الفنون ورفضها، في الوقت ذاته الذي يكون فيه الرموز الصحويون الذين تسببوا في تلك القناعات الجمعية الصارمة المتطرفة، يعيشون حراكا ترفيهيا في أماكن يختارونها بعناية، ليمارسوا فيها شيئا من الدعة والترفيه، وهم يتأنقون في ارتداء الملابس اللائقة بتلك الأماكن (رسمية أو كاجوال)، مع أحدث ماركات كارنيفال وأوميغا وراي بان للساعات والنظارات، مكافأة لأنفسهم وتعويضا لها عن سنوات التعب والعيش خارج الذات الحقيقية، والتي اشتغلوا فيها بعزم وحرفنة على أدمغة البشر في مجتمعنا!
وحقا فإن معظم التعليقات على الخبر، تصف هذا البرنامج الموسيقي بالفسق والمجون، محتجين بأن زمن هذه الفعاليات الفنية لا يليق مع مرابطة جنودنا في الحدود الجنوبية القلقة لبلادنا!
أما آخرون فكانت تعليقاتهم تعج بالسخرية والاستهزاء باعتبار أن هؤلاء الموسيقيين (ناس فاضية)!
والحقيقة أن الخبر بتعليقاته أفسد علي متعة رحلتي مع كاتبي ميلان كونديرا عبر موتيفات الموسيقى اللحنية وثيماتها الساحرة والمطابقات الشيقة لبوليفونية عناصرها مع حوارية الفن الروائي!
 لم تكن الموسيقى الأوروبية خلال ألف عام، وغيرها -عامة- في أزمان مختلفة ترفا أو ترفيها أو رفاهية، وإنما نشأت ووجدت تلبية لحاجات إنسانية في الانعتاق من الحدود المادية لرحاب روحية بالغة السمو والتحرر!
وبالتالي فإن ثمة تخريبا هائلا وقع على الذهنية الجمعية منذ أكثر من ثلاثين عاما أفضى إلى أحكام تقويمية بالغة القسوة وشديدة التجريم، وإلا كيف اتفق العامة على أن مجرد مشاهدة عازف بيانو فسق عظيم؟!
أليست نغمات هذه الآلة الموسيقية تشبه الإيقاع الجميل لقطرات المطر وهي تسقط على أسطح مختلفة الشكل والنوع؟ أليست الموسيقى المجردة كلها محاكاة لأصوات الطبيعة ونداءاتها السرية الشجية؟!
من جانب آخر هل الموسيقى والفنون عامة تخون الأوطان التي يحارب أبناؤها على الحدود؟!
الشاعر الفلسطيني محمود درويش اعتقله الصهاينة بسبب قصيدته النضالية الشهيرة (عابرون في كلام عابر)، والفنان اللبناني مارسيل خليفة لكأنه وهو يعزف على عوده الأثير يطلق ألف صرخة وقنبلة في وجه الأعداء، ولوركا الشاعر الإسباني قتل بسبب قصائده ولوحاته الرافضة للظلم والاحتلال، والتي كانت معلقة على جدران المدينة..!
السؤال الأخير في هذه الأثناء: ماذا لو قرأ كونديرا الردود المحلية المناوئة والمعنفة بحق الموسيقى وعازف البيانو؟ هل كان سيخطر في باله يوما أن بشرا يعيشون في كوكبه، يصفون الموسيقى بالفسق والجريمة، غير ما كان يطلقه عليها من صفات العمق والسطحية والبوليفونية والرتابة والانسجام والتقويض وصفات أخرى كثيرة لا يمكن أن يكون بينها ما يتعلق بمشروعية وجودها و(حلالها وحرامها)!
يااااااه..ما أبعد المسافة..ما أقسى المفارقة..يالفداحة المقاربة!!
وبعد فقد كنت سأحكي عن المبالغة في ثمن تذاكر الحفلات الفنية، وعن عدم (كفاية) عازف بيانو واحد لتحقيق الأثر الفني الترفيهي المنشود، وضرورة أن تكون تلك الفعاليات كرنفالات حقيقية، يكون العزف على البيانو مثلا أحد مهرجاناتها الممتدة لأيام وأيام.. ولكني وجدت ألا حاجة لكتابة كل ذلك، وفي الآذان أحجار (فسق) جاهلية.