لن نجد في الذاكرة الثقافية دلالة مسيئة للحرية، أو مشينة لها، بل نجد دلالة الحرية دائما على القيمة المثالية
لا موضوع أشمل وأكثر جوهرية من الحرية، للاصطراع والتعارض بين الفئات الاجتماعية والفكرية، بكافة الوجهات التي تنقسم وتتقابل وتتصادم.
فالموضوعات الأخرى التي تفرق بينها وتتسبب في تقابلها الثنائي، سواء تعلقت بتنظيم المجتمع وإدارته، أم بالدين والأخلاق، أم بالحقوق والقوانين، أم بالفكر والتعبير، أم بالتقليد والإبداع، تندرج في موضوع الحرية، فترادفها أو تتصل بها، أو تلزم عنها.
لذلك فإن السؤال عن الحرية هنا، ليس سؤالاً عن مفهوم واحد للحرية تتشاركه تلك الفئات، ويكون خلافها أو اتفاقها عليه مفهوماً على هذا الأساس، بل هو سؤال عن تصور كل منها للحرية تصوراً مبنياً على علاقة الصراع والتضاد بينها، بحيث تنعكس هذه العلاقة في التصور للحرية وعليه.
هكذا لا يجوز أن نفهم الرفض للحرية وتحقير قيمتها في موقف، وأن نفهم المطالبة بها وتمجيدها في موقف آخر، بوصفهما موقفين من شيء واحد، وبتصور واحد، بل هما موقفان متغايران تغايراً يصنع لذلك الشيء ماهيته وقيمته والشعور به على نحو متغاير.
ومن المؤكد أننا نختزل المشكلة حين نضعها في معترك الصراع بين فصيلين وحسب، وأن نقع في شراك ما هو متداول من ثنائيات «الإسلاميين» و«الليبراليين» أو «المحافظين» و«المجددين» أو «التقليديين والحداثيين»... الخ.
فالاتجاهات المختلفة لدى كل طرف على حدة من أطراف هذه الثنائيات لا تتساوى في التصور للحرية والموقف منها إلا على سبيل الإجمال، ولن يكون بوسعنا اختصاص طرف وحده بموقف مغلق ونهائي من الحرية في مفهومه لها وفي رفضها أو المطالبة بها.
قد تتراءى المعارضة للحرية والنفور منها، لدى من يسمون بـ«الإسلاميين» ولدى المحافظين من منطلقات فئوية وطبقية اجتماعياً، ولدى الوجهات الثقافية التقليدية، موقفاً واحداً، ولكن هذه الفئات ليست متطابقة في بواعث موقفها من الحرية، وغاياتها منه، ومن ثم في مفهومها لها.
وعندئذ فلن يكون دقيقا أن نقول إن الإسلاميين أو المحافظين أو التقليديين يناهضون الحرية ويرفضونها، بل يناهض كل منهم على حدة تصوراً معيناً للحرية لا تتحقق به المصلحة من وجهته، ولا يتحقق موقعه الذي يتعرف بالاختلاف عن سواه، ولو كانوا فعلا مناهضين للحرية لما ساغ لهم مقصد لأن القصد والنية يستلزمان الحرية، ولكانوا بأنفسهم مناهضين لوجودهم.
وهذا ما يمكن حسابه بالقدر نفسه لدى الفئات التي تجتمع -بحسب التصنيفات المتداولة- في صف التمجيد للحرية والدعوة إليها، كمن يوصفون بـ«الليبراليين» و«المجددين» و«الحداثيين» فالحرية من هذه الوجهة تأخذ تصورات مختلفة عن تلك، تتحقق بها المصلحة في مدى لا يرتهن إلى موقع مناهض للتغير أو التعدد أو المساواة والعدالة الاجتماعية.
ومن هذا المنظور لا يمكن لنا أن نرى دعوة وتمجيدا مطلقين للحرية، بل نرى معارضة للحرية ونفوراً منها، كما كانت المعارضة لها والنفور منها لدى تلك الوجهات التي اجتمعت في صف المعارضة للحرية، إنها هنا معارضة للحرية الفئوية والطبقية وما إليها من امتيازات على حساب باقي الفئات والطبقات.
والنتيجة التي تتراءى لنا في تفاصيل التقابل في الموقف من الحرية، على ذلك النحو، تعيد ترتيب تصوراتنا، وتقلبها رأساً على عقب، ففي المعارضة للحرية مطالبة بها من وجه، وفي المطالبة بها معارضة لها من وجه.
وهذه النتيجة تدلل على قيمة الحرية لدى الجميع، أي على صفتها المطلبية وضرورتها، كما تدلل على أن الاعتراض عليها والصراع بشأنها، لا يكون معقولاً بوصفه نفياً لتلك القيمة، بل تأكيد لها؛ لأنه صراع ضد تهديد الحرية للفرقاء فيه، وعلى صياغة مفهومها بمقاس المصلحة الفئوية الضيقة والثقافة والإيديولوجيا، أو بمقاس العموم الاجتماعي والإنساني.
ولهذا لن نجد في الذاكرة الثقافية دلالة مسيئة للحرية، أو مشينة لها، بل نجد دلالة الحرية دائما على القيمة المثالية، أي على صفة مرغوبة من كل أحد.
وذاكرتنا الثقافية الأساس، هي اللغة التي ترينا معاجمها تلك القيمة، ففي «لسان العرب» نجد دلالة الحرية نقيضاً للعبودية: «الحُر، بالضم: نقيض العبد» و«الحُرَّة: نقيض الأمة». إنها دلالة الحرية على الاستقلال الذاتي، وسيادة الفرد على ذاته.
و«الحر من الناس: أخيارهم وأفاضلهم. وحُرية العرب: أشرافهم» «والحُر: كل شيء فاخر من شِعر أو غيره. وحُر كل أرض: وسَطُها وأطيبها» «والحُر: الفعل الحسن» و«الحُرَّة: الكريمة من النساء» «وسحابة حُرَّة أي كثيرة المطر» «وتحرير الكتابة: إقامة حروفها وإصلاح السقط».
إنها دلالات تجتمع على قيمة ما تصفه بالحرية، من جهة الخير والفضل والشرف والفخارة والوسط والطيب وكرم الأصل وكرم العطاء والصحة والجودة، وهي صفات تتحدد قيمتها بالسلب لغيرها وإحراز أفضلية عليه.
ونجد دلالة الحرية على القيمة في معنى ديني يتعلق بصلة المحرَّر بالله تعالى، ويورد اللسان على ذلك قوله تعالى: «إني نذرت لك ما في بطني مُحرَّراً فتقبَّل منِّي» ويقول: «تحرير الولد: أن يفرده لطاعة الله عز وجل وخدمة المسجد».
ولا يوجد أوضح دلالة على قيمة الحرية وضرورتها في القرآن الكريم، من النهي عن الإكراه على الدين الذي يدعو إليه. ويتعدد بيان آيات القرآن لتلك القيمة والضرورة، ويكفي أن نقف منها على قوله عز وجل: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة» (هود: 118).
فقد وقف عديد المفسرين للآية على نفي الاضطرار إلى أن يكون الناس أمة واحدة؛ ذلك فيما قال الزمخشري مثلاً- «إن الله لم يضطرهم إلى الاتفاق على دين الحق، ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف».
وهنا تتجلى الصلة بين الحرية والمسؤولية، فلا مسؤولية من دون حق الاختيار، وهذه قاعدة تأسيسية تغدو الحرية بموجبها شرط الإيمان وشرط الأخلاق بقدر ما تغدو شرط إنسانية الإنسان وشرط نيته وقصده إلى الفعل.
فلا صحة لاعتقاد المُكرَه، ولا فضيلة لأخلاق المُجْبَر على الخلق القويم، ولن تتحقق للإنسان إنسانيته حين يكون مسلوب الحرية، وفاقداً للمسؤولية.
هذا المفهوم المطلق لحرية الإنسان في القرآن، من حيث هي علاقة بطبعه و«خِلقة الله» له، مختلف عن دلالة الحرية في اللغة، أي في الثقافة البشرية، التي تشير دلالاتها دائما -كما نقلناها عن لسان العرب- إلى واقع متفاضل، يكون فيه «الحُر» وغير الحر.
ودلالة التفاضل تلك هي دلالة الحرية في المجتمعات الإنسانية؛ فليس هناك مجتمع توجد فيه الحرية دفعة واحدة، وبشكل نهائي. ولو تحقق هذا المجتمع، لكان تحقُّقه -لا محالة- إعداماً للحرية وإنهاءً لها، فلن يكون لديه -عندئذ- حاجة إلى دلالتها، لانتفاء ما يختلف عنها.
الحرية -إذن- لا تتحقق، بل تتحسن بالعمل على المجاوزة إلى الممكن.
وإذا تقررت قيمة الحرية وضرورتها، فإن الاتهام لوجهة المعارضة للحرية بالجمود والاستبداد والفساد والمصادرة للرأي والتعصب، هو الوجه الآخر للاتهام لوجهة الدعوة إليها بالتفسخ والانحلال والتمرد على قواعد المجتمع وثوابته.
فالوجهتان متساويتان، من حيث تبدوان مختلفتين، في التعبير النقدي منهما عن غياب الحرية، وليس عن الرغبة في استبعادها؛ لأن ما يَتَّهم به أحدهما خصمه شبيه بما يتهمه خصمه به، لا يجد علاجه إلا في الحرية التي توجد دفعة واحدة مع المسؤولية عنها، ومع الفعل المستمر للتجديد والتطوير والاعتراف بالحقوق والتقنين، أو لا توجد.