دموع القصبي وهو يتحدث عن العمل أعادتني إلى لحظة التفت فيها خارجة من بيت الوابلي، رأيت شجرة مثمرة علمتني أن من يزرع الأشجار بالضرورة يجيد زراعة الكلمات لتثمر

ليس أجمل من أن يكتب التاريخ أستاذه الخبير، وأعني أستاذنا الراحل الدكتور عبدالرحمن الوابلي ـ رحمه الله ـ وهو رجل جمع بين الوعي بتشابك قضايا المجتمع وتفكيكها وتحليل تعقيداتها، وبين دقة المؤرخ في وقت ندرت فيه النصوص الجيدة الصالحة للتمثيل كأعمال طويلة.
في تقرير قناة العربية عن الراحل، وصفه الأستاذ يحيى الأمير بأنه «من أوائل من حولوا الأفكار، وهي في العادة للنخبة؛ حولها لأعمال درامية خرجت من حيز التداول بين النخب إلى أن أصبحت موضوعا شعبيا».
ووصفه الكاتب فهد الشقيران حينها بأنه نسيج وحده، وأنه مرتبط بالتاريخ، واختص بالتاريخ السعودي والتحولات في المجتمع النجدي، ودرس التاريخ في جامعة شمال تكساس، وأنه صاغ نظرية خاصة بالوفر والفقر والانتقال التاريخي بينهما. وأنه تبع التفسير المادي للتاريخ، دائما يربط كل تحول بالاقتصاد بالمال بالتربة، ويعتبر التاريخ موضوع سؤال.
كلام الأستاذ فهد الشقيران من أجمل ما يفسر فكر الدكتور عبدالرحمن الذي يقدم في مسلسل العاصوف كما قدمه سابقا في سلفي، وقبلها طاش ما طاش.
دور الخبير بالتاريخ الذي يقرر أن ما نعيشه ليس أكثر من صراعات مادية، والعاصوف - وأنا مثلكم لم أشاهده بعد - ولكن ذكروا أنه يؤرخ لمرحلة عشناها، وهي مرحلة ما قبل الطفرة، وتحديدا النصف الأول من سبعينات القرن الميلادي الماضي، خمس سنوات سبقت الطفرة، من عاشها يذكرها بوضوح لأن الإنسان فيها كان يعيش على سجيته دون وصاية.
تلك المرحلة كانت مسكونة بالبيوت الطينية الباردة التي بدأت تتحول إلى بيوت من حجر، كانت مسكونة بالتواصل الحقيقي المضياف مع الآخر جارا كان في الحي، أو عملا فنيا يعرض في التلفزيون.
زمان يثير الحنين لمن عاش فيه؛ ففي ذلك الزمان كانت العمارات بسكانها العرب بدأت ترتفع أعلى من ارتفاع البيوت الطينية التي كان أصحابها ينامون مطمئنين على سطوحها قبل دخول التكييف وحتى المراوح للبيوت! فلم يكن من المستغرب أن تغلق الجارة العربية باب البلكونة وهي ترى أهل البيت بدؤوا بالدخول في مرحلة الاستعداد للنوم.
صوت وردة و«أولاد الحلال» وأم كلثوم «واللي شفته»، وسترفع رأسك لتحاول أن تصل إلى القمر من فوق السطح لتساعد فيروز التي تبحث عن القمر لحبيبها! لاحقا عبدالوهاب الدوكالي ومرسول الحب وغيره، وصوت العرب يطرز تلك الليالي بعد أن ينام فارس بني عياد! الارتباط بالراديو كان أعمق من الارتباط بالتلفزيون، لأن بثه حين يتوقف من محطتنا منتصف الليل يستمر من محطات أخرى ترافق السهر إلى أقصاه الثانية ليلا!
في لقاء جميل لمحمد عبده في البيت بيتك قبل سنوات تحدث محمد عن حلمه، وهو يتيم في زمن الملك فيصل ـ طيب الله ثراه ـ ووعده لأمه أن يبني لها قصرا؛ فعلق المذيع محمود سعد: أتقولها وأنت لم تجد عشاءك وأنت فقير؟! فرد محمد: المجتمع كان فقيرا!
لم يكن الفقر في ذاك الزمن مسبة، لأنه لا أحد يعيرك بفقرك؛ فلم يكن الغني ينفق على المظاهر، بل يبحث عن مساعدة الفقراء من جيرانه ومعارفه، ويوفر لهم ما يحتاجون في عيد أو غيره؛ لم نكن نفرق في ذاك الزمان بين فقير وغني، فحتى الفقراء كانوا متعففين، ويحسبون أنفسهم أغنياء!
ميزة ذاك الزمن بالنسبة للنساء هي التعليم النظامي الذي حظيت به فتيات وعى آباؤهن قيمته، وحرمت منه أخريات بعد صراع ومقاومة لتعليم المرأة؛ ومن العجيب أن الرياض التي يؤرخ لها العاصوف لم تكن الأسبق لتعليم النساء، بل سبقتها مناطق بعقد أو يزيد كالقصيم التي ينتمي لها الدكتور الوابلي ـ رحمه الله.
أنتظر معكم العاصوف، وأنا أشعر بالحنين الشديد للمكان والإنسان الذي كان فيه، دموع ناصر القصبي وهو يتحدث عن العمل أعادتني إلى لحظة التفت فيها خارجة من بيت الدكتور الوابلي بعد تعزية النساء من أهله اللطفاء بقدر لطف حرفه رحمه الله، وأنا أخرج رأيت في بيته شجرة مثمرة علمتني أن من يزرع الأشجار بالضرورة يجيد زراعة الكلمات لتثمر!