ما أخشاه أن تصبح كلمة (متطرف) أداة إقصاء ناعمة، وهروبا من مواجهة الفكرة ذاتها من خلال تعميم (عدم الاعتدال على صاحبها)، وهذا قد يخلق مؤيدين كثرا لها
عندما تسمع أو تقرأ مفردة «متطرف»، ينصرف ذهنك مباشرة لشخص متدّين (مهما كانت ديانته)، وهذا الذي جعل السؤال (لماذا) يقف بثقة كعنوان لهذه المقالة، ففي المعجم: (تَطَرَّفُ فِي أَفْكَارِهِ: يَتَجَاوَزُ حَدَّ الاعْتِدَالِ وَالحُدُودِ الْمَعْقُولَةِ، يُبَالِغُ فِيهَا)، وهذا التعريف بذاته يُنبت مئات الأسئلة، فمن الذي يحق له أن يقرر ما إذا كانت فكرة ما تجاوزت حدود المعقول والاعتدال أم لا؟ سيّما إذا كان صاحب الفكرة يرى نفسه وسطيا معتدلا بمقاساته هو (وهو بالتأكيد يرى نفسه كذلك)، بل إنه يرى أن هذا الرأي الذي يراه الآخرون تطرفا هو من صلب دينه الذي يأمر بالوسطية، وفي تعريف آخر (التطرف نزعة قائمة للجوء إلى العنف)، وهنا نسأل: ماذا لو كان رأيا جاوز – جدلا- حدود الاعتدال، لكنه لم يدع إلى عنف؟ فعلى القياس الجدلي السابق فإن الدعوة إلى العنف تتجاوز (التطرف) لتدخل في مربع (الإرهاب)، أي أنها خرجت عن كونها فكرة ويحاول صاحبها أن يفرضها بالقوة، أتذكر قبل عدة أشهر عندما قال أحد ممن يصنفون بأنهم ليبراليون حرفيا: «الشعوب التي لا تهتم بالموسيقى، تسير في الحياة كالأغنام»، هذا الرأي لم يُقل عنه إنه متطرف، رغم أنه لا فرق بينه وبين من ينعت مستمعي الموسيقى بأبشع الألفاظ، ويصل للتشكيك في أخلاقهم وعقيدتهم، لا فرق بين من يجعل فهمه للدين (رأيه) هو الحق الذي يجب أن يُتّبع، ومن يرى أن (ذائقته) هي مقياس لإنسانية الآخرين!
ما أخشاه أن تصبح كلمة (متطرف) أداة إقصاء ناعمة، وهروبا من مواجهة الفكرة ذاتها من خلال تعميم (عدم الاعتدال على صاحبها)، وهذا قد يخلق مؤيدين كثرا لها، بل وقد يجعل صاحبها بعيون مريديه ممن لا يخشون في الله لائمة لائم، فالمصطلح أصبح في الذاكرة الجمعية مرادفا للتخلف والرجعية، وكأن نعته بهذه اللغة يكفي لدحضه!
لن تكون المساحة كافية للغوص في مفهوم التطرف وسيكولوجيته، لكنها كافية لطرح توجس ومخاوف الأسئلة، أو ربما إيقاظا لإشكاليتنا القديمة مع المصطلحات، وخاصة عندما يخرج المصطلح دون انضباط للشارع، فيأتي فضفاضا على هيئة اتهام أو شتيمة، أو يأتي أداة للإقصاء كما أسلفنا، وقد يداعب مخيلة المريدين الحالمين بصناعة رمز قوي وجريء يخالف الجميع، فيما المفترض أن تكون الفكرة – أي فكرة – قابلة للنقاش ما دام صاحبها لم يسعَ لفرضها، فوصف الفكرة بالرجعية أو المتخلفة أو التافهة دون مناقشتها وتفنيدها قد يعطي لها أهمية، في الوقت الذي كان فيه من الممكن أن تجعل صاحبها يمسي وحيدا ويجد وقتا للتفكير بها مجددا.