لا توجد مادّة تلفزيونية تُتابع بكثافة وتصبح ثقافة شعبية ما لم تكن فناً أو رياضة أو برنامجاً دعوياً. لكن اللافت للنظر، أنه رغم ذلك، فإن أفراد هذه الفئات هم الأقل عرضة للمحاسبة واللوم على مواقفهم من القضايا العامة

كانت آخر حلقة في مشهد ما قبل الانتخابات المصرية، ظهور عمرو خالد في محاضرة جماهيرية داخل مصر بعد غياب ثمان سنواتٍ كان ممنوعاً فيها عن مثل هذه المحاضرات. والقصة باختصار هي أن عمرو خالد أعلن خلال أيام الحج على موقعه، أنه سيُقدّم محاضرة تحت مظلة مؤسسة الإسكندرية للتنمية. الإعلان أثار زوبعة وصدمة. فمؤسسة الإسكندرية للتنمية يرأسها أحد مرشحي الحزب الوطني – عبدالسلام المحجوب، وهو وزير التنمية أيضاً – الذي يتنافس مع مرشحين آخرين على مقعد مجلس الشعب في إحدى دوائر الإسكندرية. جمهور خالد وغير جمهوره أيضاً، ثاروا لقبوله العودة تحت مظلة هذه المؤسسة التي يرأسها ذلك الرجل بالتحديد وفي ذلك الوقت بالذات. لقد بدا أن خالد متورط في البرنامج الدعائي للمرشّح. رفض عمرو خالد الاتهامات، ثم أعلن أنه قد لا يذهب، ثم ذهب فعلاً وكانت المحاضرة. دافع خالد عن موقفه بأنه رفض وجود أية ملصقات انتخابية خلفه، ورفض حضور المُرشّح الانتخابي، وأكّد أنه لم يقم بأيّ دعاية لأحد، وقال: أنا مش ضد حد، ومش مع حد، أنا لا أدخل في قضايا سياسية، أنا أحمل رسالة إصلاحية إيمانية أخلاقية تنموية، ومؤسسة الإسكندرية جمعية تنموية، لدينا قيم مشتركة وتعمل في نفس قضيتي وهدفي. لكن تغطية موقع (الدستور) المصري تضيف بعض التفاصيل حول وقائع المحاضرة. فخالد دخل إلى موقع المحاضرة بصحبة الأمين العام لمؤسسة الإسكندرية للتنمية، الذي هو في الوقت ذاته، مدير الحملة الانتخابية لمرشّح الحزب الوطني. وقبل أن يبدأ خالد محاضرته، ألقى الأمين كلمة وجه فيها تحية للمرشّح الانتخابي وذكّر الجمهور بأن علينا أن ندعم من يحب مصر وينتمي لها، وكفانا شعارات. وفي الخارج حسب رواية (الدستور) كان شباب الحزب الوطني العاملين في حملة المرشّح الانتخابي يتلقون شكاوى الناس، وطلبات التوظيف، ويرتدون قمصاناً تحمل صورة المرشّح. على أية حال، انفضّ المولد الانتخابي هذا الأسبوع ولا يبدو أن أحداً يبالي بنتائجه المعروفة سلفاً، لكنّ هذا المشهد يطرح أسئلة أكثر بقاءً واستدامة حول علاقة النجم الجماهيري بالسياسي، وحول أخلاقية مواقفه من السياسي. عمرو خالد هنا ليس إلا نموذجاً لحالة أعمّ وأوسع.
من ناحية، هو نموذج للدور الذي يلعبه النجم الجماهيري في خدمة السياسيّ في البلاد العربية. أبرز النجوم الجماهيريين هم الرياضيون، الفنانون، الدعاة أصحاب البرامج الفضائية على وجه الخصوص. لا يوجد كاتب أو صحفيّ أو مثقف يملك تأثيراً شخصياً واسعاً على الجماهير كما يملكون، البث الفضائي يستحوذ عليه هؤلاء تقريباً و يتقاسمونه فيما بينهم، لا توجد مادّة تلفزيونية تُتابع بكثافة وتصبح ثقافة شعبية ما لم تكن فناً أو رياضة أو برنامجاً دعوياً. لكن اللافت للنظر، أنه رغم ذلك، فإن أفراد هذه الفئات هم الأقل عرضة للمحاسبة و اللوم على مواقفهم من القضايا العامة. و قد باتوا هم أيضاً يتوقعون ألا يحاسبهم أحد من الجمهور. صرنا نصدّق أن الرياضيّ لا يُجيد استخدام عقله قدر ما يجيد استخدام قدميه، ونتوقع من الفنّان أن يكون مضحكاً، أو مُبكياً على سبيل التنفيس، ومن كليهما: ألا يأخذا موقفاً مما يجري حولهما حتى في ذروة الأحداث السياسية التي ينغمس فيها جمهورهما. كان الفنّانون والرياضيون هم الأقل حضوراً في التجمعات المدنية في مصر خلال السنوات الخمس الأخيرة، عبر وجوه نادرة مثل عبدالعزيز مخيون أو خالد أبو النجا. لكن، بينما يتم تسويق كذبة للجمهور حول عجز الرياضيين والفنّانين عن أخذ موقف سياسي واضطرارهم إلى التزام الحياد؛ فإننا نفاجأ دوماً أنهم يدلفون إلى السياسة من الباب الخلفيّ للسلطة، وفجأة تراهم يتصدّرون الموالد الانتخابية يوظّفون شعبيّتهم في خدمة مرشّح السلطة، أو يرشّحون أنفسهم، ويجلسون في المقاعد الأمامية للحزب، ويدخلون في علاقات مصاهرة و(بزنس) مع أعضائه، وتتوحّد المصالح والأهداف. الفنّانون والرياضيون يرثون من السياسي المنظور الأبوي في التعامل مع الجمهور، مجموعة القـُصّر البائسة هذه، ضعيفة الإدراك سريعة النسيان، التي لا تملك رأياً مهماً إلا إذا كان إقبالاً على شباك التذاكر، هتافاً في الملعب، أو تصويتاً يكرر الثقة ويجدد العهد، عاماً، بعد عام، بعد عام.
حالة الدعاة مختلفة قليلاً، بحكم تمتّع المثقف الديني بموروث عريق ومعقّد ينظّم العلاقة بالسياسي، خلاف الرياضيّ والفنّان. توقّعات الجمهور مختلفة. الداعية يقدّم ما هو أكثر من المتعة. هناك مضمون أخلاقيّ وراء كل ما يقول أو يفعل. هكذا يؤكّد وهوَ يحكي متبسّطاً قصصاً من حياته اليوميّة. لهذا لا تكون الصدمة الجماهيرية بسيطة عندما يعود ذات الداعية و يؤكّد أن ظهوره في قناة ترويجية لقطب سياسيّ، أو في خيمته الانتخابية، أو تحت رعايته الاسمية؛ هو عملٌ لا يحمل أيّ مضمون أخلاقيّ أو سياسي. محاولة التفريغ من المضمون هذه هي الكذبة الموازية لكذبة ما ليش في السياسة عند الفنّانين. عمرو خالد كان ممتلئاً بالسياسة وهو يؤكّد أنه مش مع حد، و لا ضد حد، كان مسرح المحاضرة وكلماتها خالية من الترويج السياسي، لكن الطريق المؤدّي إليها، والباب، والعتبات، كانت كلها منحازة للمرشّح السياسي الذي قبل الداعية أن يلعب دور العسل في سرادقه. وما كان عمرو خالد بحاجة إلى كلمة أكثر من قوله في المحاضرة عن المؤسسة التي يرأسها المرشّح أنها تحمل نفس قضيتي وهدفي، حتى يُصبح السياسيّ، والداعية الجماهيريّ الخلوق، شركاء في المشروع والهدف، لاحظ أن هذا الإعلان الترويجي كان قبل الانتخابات ببضعة أيامٍ فقط. ما كان قرار منع خالد قبل ثمان سنوات ليكون سياسياً كما اعتبره الجميع، و قرار عودته خالياً من السياسة، إلا في خطاب خالد الدفاعيّ عن ذاته، و في مخيّلته.
انتهت الانتخابات. وفاز المرشّح في الانتخابات. بعض المشاهد تشعرك أن الحياد خيار غير متوفّر، إنه مشهد لا يحتوي إلا على خيارين، مثل (ON-OFF). و أن أيّ شخصٍ في هذا المشهد يحاول أن يبيعك خياراً ثالثاً، هو مجرّد شخص يحاول أن ينصب عليك.