لا بد أن تكون البسطة مراقبة بالكاميرات لا لحماية البضاعة المعروضة بها، بل لحماية حق المحتاجات في العمل، أيضا توفير أماكن مناسبة لهن أو دعم عربات الطعام التي بدأت بالانتشار
قالتها ضاحكة وهي تناول ريالات قليلة لصاحبة البسطة، وأردفت لولا هذا لأخذت ما أعطاه لي هذا الطفل ظنا منه أني أنت!
أم حنان إنسانة جميلة مشرقة لها منصب إداري قيادي في مدرستها صباحا؛ وفي المساء تجلس بتلقائية لترتاح وتساعد بائعة البسطة التي عقدت سنوات الممشى فيها صداقة لا تشبهها صداقة أخرى؛ صداقة أرواح جميلة مشرقة تساند بعضها بعضا وإن غابت ملامح النساء عن النساء إلا أن ترابطهن كان ظاهرا!
دقائق تقضيها أم حنان وتتابع مشوارها اليومي في المشي والحياة اليومية؛ لتأتي امرأة أخرى أو نساء ورجال وأطفال يأخذون حاجاتهم من بضائع بائعات الحديقة، أو من مجرد «بسطة».
عبارة أم حنان تذكرنا بـ«بسطة»، وهو فيلم سعودي قصير للمخرجة هند الفهاد، حقق أفضل فيلم قصير في مهرجان الشباب بجدة؛ ويحكي قصة سيدة تفترش الأرض هي وبضاعتها البسيطة بعد أن أعجزها المرض عن غيره، وهي كبقية البائعات في الشارع تبحث عن الرزق، وهناك من يسعى لطردها أو استغلالها أو مشاطرتها المكسب المتواضع!
أبدع الفنان إبراهيم الحساوي في دور المستغل للسيدة كما أبدعت الفنانة سناء بكر يونس في تصوير معاناة فئة عزيزة على قلوبنا من السيدات اللواتي يمارسن هذا العمل للإنفاق على أنفسهن ومن يَعُلن.
فيلم بسطة بقعة ضوء تركز على معاناة السيدات اللواتي لم يجدن إلا هذا العمل، وهو أسهل لكسب الرزق من ناحية ولبساطة المتطلبات. شاهدنا الفيلم في مكتبة الملك عبدالعزيز القسم النسائي، ودار حوار حول وجهة نظر الحاضرات في حاجة البائعات كما هي بطلة الفيلم أو عدم حاجتهن له، لأن بعض النساء لمجرد الرغبة في زيادة الدخل يلجأن إلى هذا العمل مع وجود دخل آخر أو وجود عائل.
الواقع الذي نعرفه أنه وإن وجدت من ليست بحاجة ماسة إلا أن الأصل يبقى كون كثير من البائعات ممن أجبرتهن الظروف على هذا العمل، ولنعد إلى فيلم بسطة فقد فاز بجائزة أخرى، هي جائزة لجنة التحكيم في مهرجان دبي السينمائي الدولي، وقد رأت الفوز المخرجة هند الفهاد في لقاء لها انتصارا لتجربة المرأة السينمائية، وهو كما قالت، وأيضا كما نراه انتصارا لكفاح المرأة التي تبحث عن الرزق الشريف، وتستمر بالعطاء لمن حولها؛ نص جميل ومؤثر وممثلون مجيدون ومخرجة تملك رؤية تترك من خلال عملها لمخيلتنا مساحة للمسكوت عنه في الأحداث، وبالتأكيد ستختلف القراءة للأحداث، فبسطة سناء يونس تقلصت في كيس خفيف تحمله لتصعد إلى سيارة الرجل الذي كان يفترض به أن يحميها فإذا به يستغلها لتصبح أكثر فقرا؛ ومن هما السيدتان اللتان اتفق معهما هل هما زوجتاه؟!.. والنساء الثلاث في السيارة تثير الكاميرا مخيلتنا لأنهن كادحات كبطلة الفيلم يحملن غلتهن الضئيلة، ويركبن مع الزوج الذي يشاطرهن المكسب مع أنه موظف واجبه أن يحمي وجودهن في الشارع ويدافع عنهن!
فيلم عميق استمد عمقه من معاناة البائعات غير المرئية للكثيرين والكثيرات، مما يعيدنا إلى صاحبة البسطة التي بدأت الحديث عنها، فهي كغيرها من مفترشات الأرصفة لها معاناة، تناولت بعض البرامج التلفزيونية مشاكلهن، فأصبح التعامل معهن والتعاطف والتقبل لهن أكثر ولكنهن مازلن بحاجة إلى لفتات أكثر.
لا بد أن تكون البسطة مراقبة بالكاميرات لا لحماية البضاعة المعروضة بها، بل لحماية حق المحتاجات في العمل، أيضا توفير أماكن مناسبة لهن أو دعم عربات الطعام التي بدأت بالانتشار. وأعني بمراقبة الكاميرات أن نستمر في تصوير واقع البائعات فنيا، وأن ننشر في حدائقنا وأسواقنا كاميرات المراقبة التي تدين من يقترب منهن بسوء، وأتمنى على من تعمل في هذا المجال من غير المحتاجات ألا تشتد بالمنافسة مع المحتاجات للعمل، بل أن تبحث عن مجال آخر لتكسب رزقها، أو تختار بضاعة مختلفة لأن التنافس الشديد بدأ يسبب كسادا للمحتاجات.
الصيف قادم وتحت حرارة الشمس والأرض لا يتوقف هدير محرك سيارة الآيسكريم وغيرها التي تنفث عوادمها على من تختار أن تجاوره منهن. دعم الشباب الذي يعمل موزعا للبضائع مطلوب أيضا لاستمرارهن ولتجنيبهن مشقة التسوق، في الجعبة حكايات ربما أعود لصياغتها عن هؤلاء النساء لتستمر كاميرا الإنسانية بمراقبتهن.