تساءل أحد المفكرين لماذا العالم العربي يصعد سلم التاريخ إلى الأسفل؟! الإجابات كثيرة ومتنوعة حسب الخلفية الفكرية أو الثقافية أو حتى الخبرة للفرد، أما بالنسبة لي فهي واضحة جدا؛ وضع المعلم! إن التخلف الذي يعاني منه المجتمع العربي اليوم لهو ثقافي بالدرجة الأولى، والمؤسس الأول للثقافة متى ما وجدت هو المعلم. لقد خسرنا الكثير حين تخلينا عن مكانة المعلم البارزة في المجتمع، ولقد آن الأوان أن نعيد للمعلم دوره ووضعه المسلوب في المجتمع، لأن عدم احترام المعلم ليس مجرد خطأ أخلاقي، بل خطأ إستراتيجي لما يتسبب ذلك في تخريب للنظام التعليمي برمته!
لقد انقلب الحال حين طبقنا النظريات الجديدة في التعليم، والتي نادت بوضع الطالب في قلب العملية التعليمية، ونسينا أن المعلم هو صاحب الدور الأساسي في تنمية وتطوير عقول النشء! يجب أن نعترف بأننا نتخبط بين المعلن والمضمون! المعلن ما لا نطبقه، والمضمون ما يظهر في سلوكياتنا وقراراتنا، والناتج فوضى قادت إلى ضياع الكثير من العقول التي كان بالإمكان أن تبدع، وليس فقط قلة نتسابق إلى نشر أخبارها كلما ظهرت في وسائل الإعلام، خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي! ففي خضم هذا الكم الهائل من الفوضى الإعلامية التي لا نعرف كيف نفرق بين ظاهرها وباطنها، يطفو إلى السطح خبر نابغة من الطلبة أو الطالبات فننتشي غير مدركين أهمية أن يكون ذلك ضمن قائمة طويلة، وليس فقط حالات معدودة!
نعم هنالك تناقض بين المعلن والمضمون فيما يخص التعامل مع المعلم! هل يبدو الأمر لغزا؟ مع أنه في غاية السهولة، لأن ما يجري هو التعمية أو التغاضي عن وجود معضلة ليست بذلك التعقيد بأن تستعصي على الفهم، بل في غاية الوضوح إن نحن ركزنا، ولكن على ما يبدو أن هنالك من لا يريدنا أن نفهم، ويلف ويدور بنا دون أن يسمح لنا بأن نتوقف لنلتقط أنفاسنا ونفكر! هل هذا التصرف مقصود؟ لا أظن، بل أقرب تفسير هو أننا نحن من يلف ويدور وينسى أنه هو كمجتمع من أضاع هذه المكانة التي كان كل معلم يمتلكها يوما، كيف؟ حين تخلينا عنه وتركناه في الساحة وحيدا يتخبط بين المتغيرات المحلية والعالمية وضغوط الحياة، وطالبناه بالإبداع مع إدارات لا تقدره وطلبة لا يحترمونه!
لقد كان المعلم الأسمى والأرقى بل مؤسسة بحد ذاته، مثال يحتذى به من قبل طلابه، حيث كانوا يعتبرونه الأكثر علما وذكاء في المجتمع، كان ذلك يوما... أما اليوم وأمام الصراع والسباق المحموم حول الشهرة والمال وأمثلة كثيرة على من اعتلى سلالم الشهرة والمراكز العالية ممن لم يقرأ أكثر من كتاب أو اثنين في حياته كلها، لم يعد للمعلم حاجة، بما أن المطلوب يمكن أن يصل إليه الفرد بطرق أخرى تقدم له، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي، على طبق من فضة! نعم وبما أن الأسر أصبحت أكثر رأسمالية في التوجه كمحاكاة للتغيرات العالمية، أصبحت نظرة الآباء والأمهات دونية بالنسبة لمهنة التعليم، وبالطبع فسر الأبناء تلك النظرة بسلوكيات سلبية نحو المعلم! للأسف أصبحت الوقاحة هي ما يوحد الطلبة كنوع من مظاهر المساواة؛ فما يجمعهم هو التمرد والاحتقار للمعلم! ماذا ننتظر حينما يذكر المعلم في الإعلام، غالبا ما يكون وضعه في دائرة الاتهام من تعدّ أو إيذاء جسدي، بل يتهم بتدني المستوى التعليمي والأخلاقي وغياب الدافعية والتنافسية والإبداع والقائمة تطول! وكما سبق أن ذكرت أننا إن استمررنا في هذا الطريق فلن نهدم العملية التعليمية فقط، بل سنفقد أجيالا من الخريجين الموهوبين ممن قد يختارون الانضمام إلى هذه المهنة السامية، ويتراجعون بسبب وضع ومكانة المعلم في المجتمع!
نريد أن نتقدم بالتعليم؟ لنعيد للمعلم مكانته كهدف معلن ومضمون! بمعنى أن يتجلى ذلك في كل تصرفاتنا وسلوكياتنا وليس فقط في شعاراتنا! نريد أن نرتقي بشعوبنا، أن نبني أجيالا فاعلة مبدعة معطاءة، لنبدأ بالاهتمام بالمعلم، لنتوقف عن التعامل مع المدارس كأنها شركات والطلبة كمنتج لهذه الشركات! الطلبة ليسوا بضاعة كما المعلم ليس بعامل في مصنع يحاسب على جودة المنتج الموحد! يجب أن ننظر إلى الإبداع والتجديد في عمله، إلى مقدار التأثير ليس فقط في الطلبة، بل في مجتمعه داخل وخارج أسوار المدرسة، مدى تأثيره على المعلمين من حوله، وما يقدمه من دعم للارتقاء بالجميع. يجب أن نفرض على أفراد الإدارة العليا في المدارس حصص تدريس حتى لا يبتعدوا عن روح التعليم، ويشعروا تماما بما يقابل المعلم يوميا في المدرسة، حتى وإن كانوا مدرسين سابقا، فالأجيال تختلف كما البيئة والظروف، ولن يتعرفوا إليها إلا من خلال الاحتكاك المباشر وليس عن بعد! بمعنى قبل أن تطالب المعلم خذ دوره، ثم تقدم بمقترحاتك، اجعله موضع التقدير والاحترام، ثم أعطه المجال ليجدد ويبتكر، ولا تقيده برؤية أو فلسفة تعليمية معينة، فهو في قلب الخبرة دعه يترجمها وينقلها إلى الغير، قدم له المحفزات وجوائز التقدير، إن كنا نقدم الجوائز لأبطال الرياضة والفن ومشاهير الإعلام فلماذا نتجاهل المعلم، كيف لا نريده أن يشعر بالإحباط إن كان كاتب «الشيلة» يقدر بجائزة قد تصل إلى المليون، بل حتى الإبل تقدر وتصرف عليها الملايين، نأتي للمعلم المبدع ونبخل؟! وأكرر إن كنا نحتفي بالمشاهير ونجوم الرياضة والممثلين وننثر عليهم المديح ونمطرهم بالثروات ما بين مكافآت وجوائز وأجور، فلماذا إذًا لا يكون المعلم المتميز والمبدع أحد المتلقين لهذا السخاء والكرم الطائي؟! لا أنقص من قيمة أي أحد، ولكن من يجب أن يكون في أعلى الهرم هو المعلم، أو لنستمر في تسلق سلم التاريخ نزولا دون أن نشتكي لأنه إن أضعنا معلما أضعنا أجيالا، وليس جيلا واحدا فقط!