إذا نزلت في مطار شارل ديجول، فإن أول ما سيخالجك وأنت تسمع خبطة الختم على جواز سفرك، لدخول باريس، هو المهابة الغامضة، ستفكر أن هناك أحدا ما لا بد أن يعرف هذا. إنك في باريس، التي أضاءت فنونها وثوراتها ومدنيتها بقاع الأرض.
يحيى امقاسم من وادي الحسيني، إلى مجرى السين، من قعادات «عصيرة» إلى باريس المقاهي وأنفاق المترو، من «هباش» الشرس، وكل الأساطير التي صدقها، إلى «كميل» الذي يعرف كثيرا من الأشياء، ولا يأبه لشيء، من تداعي الأحوال والزعزعة وانقراض الأيام الأصيلة، إلى الشتاء والتخمين والمستقبل، من امرأة الحكمة، العجوز الشامخة، التي واجهت انقلاب التاريخ وضعضعة الزمن وزفرة الماضي، إلى امرأة غريبة، تتجول في شهيق المستقبل، من رصد المآزر في «ساق الغراب» إلى التجريب والمدى الضالع في «رجل الشتاء»، ومن تصفيف المسافات المهملة في رثاء بلدة مهزومة، لا ينمو فيها شيء غير الصعوبة اليومية، حتى تدريبات القلب المتعب على عدد التذاكر إلى قوس النصر، ثم حراسة هذا كله بلغة تشبه التأكد مرتين من ملحوظات، لا تراجع عنها، بشأن الحياة، وتكديسها في حقيبة سفر جاهزة على مدار الساعة. بكل حال؛ ماذا سيكون الفن لو لم يكن اعتراضا على سير العالم!
في رواية رجل الشتاء: «سأرتب هذا عن الضمير، استعدادا لما سأقوله؛ حبك باسل. إن أقلها ستقودني عيناي إلى عينيها تماما، سأنظر ليديها تستردان عافية من برد يفضح القادم على ليالي باريس، من الأخوين كانون. ومن نافذة الحجرة، في طابق قد يفوق الثاني، لفندق جناح المملكة، سأرى النباتات المتسلقة تطوّق الشباك بالتفاف محكم».
رواية «رجل الشتاء، أيام كثيرة صغيرة» صدرت عن دار طوى بشراكة مع دار التنوير لهذا العام 2107، وهي الرواية الثانية ليحيى امقاسم بعد «ساق الغراب». الرواية تعلّق ذاتها في الهواء، ما من وقائع يمكن القبض عليها، ومع ذلك تنمو الحكاية وتكتمل المشاهدة. نجح امقاسم في أن يقيم هذا العلوّ. الرواية أشبه بأن ترفع جسما في الجو، ثم تسحب يديك من تحته ولا يسقط. لا ماضي يسندها، ولا أحداث تكفي لتصنع لها سلالم، إنها هكذا مائدة سابحة فوق زمنها. كما يحدث في تحضير الأرواح، وهذه براعتها.
أما يحيى نفسه فهو يشبه كتابته الهائلة، المسافة أقصر ما تكون، هذا المشغول برهبة الوقت. افتحوا أية صفحة، ضعوا مؤشر الساعة حيث شئتم من الأيام والورق، سيمكنه دوما أن يبدأ.