إذا كانت معارض الكتب، كما هو حال معرض الرياض الدولي للكتاب، تصنع للكتاب احتشاداً بهيجاً باسم العلم والثقافة والوعي، فإننا نغفل عن أن المعنِي بهذا الاحتفال هو القارئ

ليست رمزية الكتاب ومتعلقاته للعلم والثقافة، ولا ما ينشأ عن رمزية العلم والثقافة من إسقاطات دلالية على التقدم الإنساني، رمزيةً مجردة، بل هي رمزية مجازية؛ أي تقوم بينها وبين مرموزها علاقة محسوبة، سواء من جهة السببية التي ترتِّب العلم والثقافة على الكتابة، أو علاقة الاحتواء التي تغدو الكتابة جزءا من أدوات العلم والثقافة، أو غير هذه وتلك من العلاقات.
وهي أشكال العلاقة نفسها التي ترتِّب العلم والثقافة في موقع التبادل للسبب والنتيجة بينهما وبين الدلالات الحضارية والإنسانية التي لا تكون من دون العلم، كما لا يكون العلم والثقافة في حدوثهما وتطورهما من دونها ابتداءً أو قصداً وغاية.
فالكتاب ليس ظرف احتواء للعلم والثقافة فحسب، بل هو كذلك آلة لإنتاجهما، وأداة لإحداث الوعي ونشره، وتوسيع التجربة والمعاني والأحاسيس، وكيفية للوجود الإنساني، يجاوز بها الإنسان حدوده الزمانية والمكانية، فيعيش ويعي ويتأثر ويؤثر أكثر مما تتيحه له مسافة عمره ومساحة مكانه.
وهذا معنى لا يشير إلى «الكتاب» بدلالته المفردة على كتاب معيَّن، بل بدلالته على الجنس والنوع: دلالة التأليف والكتابة المستمرة. وهذه دلالة مضادة للاكتمال والتمام والوصول إلى غاية؛ فليس هناك كتاب يبتدئ ولا كتاب يختم، لأنه ليس بالوسع الاستقلال بكتاب ولا التفرد به.
وإذا كان مؤدى الكتاب بهذا الخصوص إمداد الإنسان بذاكرة كونية ضخمة، والانتصار على النسيان وعلى تطاول الأزمنة واتساع الأمكنة، فإنه مؤدى أحال تلك الذاكرة من ظرف احتواء للمعلومات والصور إلى معمل معالجة لها وإنتاج جديد لها.
وأول ملمح يمكن تشخيصه في علاقة الذاكرة بالكتاب، تشربُها آلية التنظيم والتحكم من مبنى الكتاب في شكله ومحتواه، وهذه آلية ذهنية ينتج عنها تنظيم الفكر وترتيب عملياته والتحكم فيها.
لكن هذا الملمح لا يقف بالذاكرة عند حد التطابق مع الكتاب، ولا يفرض على الذهن التشاكل معه، لأن الكتاب يتيح من حيث هو مدونة ثابتة، التفحص لمعلوماته، ومراجعته، والتباعد عنه، ونقده. والنتيجة هي علاقة الكتاب مع الفكر النقدي؛ فكر المساءلة والاختلاف، الذي يدين له التقدم العلمي والفني والثقافي والحقوقي.
هكذا استحال الكتاب من محتوى إلى شكل، أو بالأحرى إلى شكل-محتوى، فهو ليس وعاء يحتوي المعرفة، بل أداة لإنتاجها، والمعرفة هنا كيفية في الرؤية وأسلوب للفهم ونمط من القيم والتصورات أكثر من حسبانها كمّاً من المعلومات، ومخزناً من الأقوال والأفكار والصور والسرديات.
وكان لابد لدلالة الكتاب بهذه الصفة أن تزحزح المؤلِّف عن تلك المركزية الاستبدادية، مركزية الاحتكار للحقيقة، والتملك للمعنى، والتعالي عن النقد، والاستعصاء على التعدد والاختلاف والنسبية والخطأ.
فالكتاب من دون مسافة تباعُد عن مؤلفه، لا يصنع حركة بل سكوناً، ولا يحرر الوعي بل يسجنه، ولا يمتلئ بالمعنى بل بالمنفعة.
وفي قول الجاحظ «ينبغي لمن كتب كتابا ألا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء»، يمكن أن نتأمل وعي الجاحظ بحرية القارئ تجاه ما يقرأ، بخلاف قيد السامع أمام حضور المتكلم وتأكيده وتوضيحه لمقاصده، وامتلاكه لها.
وهو المعنى نفسه الذي نلمحه في قوله الآخر «من ألَّف فقد استُهدف»، أي استدعى من ينقده، ويختلف معه. وأقوال الجاحظ عيِّنة من أقوال متكررة تتداول دلالة واصفة وتقريرية للموقف النقدي من الكتاب، وإن بدت في معنى النصيحة والتحذير، لأنه لا سبيل إلى تجنب النقد.
وأظن أن هذا التخويف والتحذير الذي يبدو في تراثنا تجاه الكتابة والتأليف، موجَّه إلى المؤلِّف الذي يريد بالتأليف المباهاة بنفسه، وتعظيمها، ومركزتها. وهي صفات تَغْفل عن المسافة بين الكلام والكتابة، وبين المحاضرة والتأليف.
وفي هذا دلالة على وعي بقيمة الكتاب في إنهاض المعرفة وبعث الجدَّة وإغناء التجربة الإنسانية، لكن من زاوية النظر إلى انخراطه في التنوع المفتوح، الذي يمنعه من التوقف عند حد نهائي، أو ينحصر في وحدة، وتعميم، وكلية، لا تصلح بالمطلق لوصف منظور بشري.
وبالطبع فإن النظر إلى الكتاب والتأليف من هذه الزاوية التي تتجاوز المؤلِّف، وتنأى عن رؤية الكمال في المؤلفات، وعن التطابق بينها وبين مؤلفيها أو بينها وبين الوقائع والحقائق، أخذ مداه الأبعد حديثا، في معظم سنوات النصف الثاني من القرن العشرين وما تلاها، ضمن تبلور فكر الاختلاف وتناميه.
وأصبحت قراءة الكتب والمؤلفات تجاوز مؤلفيها إلى اكتناه طبيعة السلطة التي تعبِّر عنها وتركن إليها وتروِّج لها، بمختلف أشكال السلطة ومستويات قوتها، المستمدة من طبقات المجتمع وفئوياته واتجاهاته أو من المعرفة أو الأيديولوجيا أو التراث... إلخ.
ولذلك غدا كشف القارئ عن التحيزات فيما يقرأ مثل الكشف عن تعدد المعاني فيما يقرأ، فاعلية تحرير لوعيه، ولم تعد الثقافة ولا العلم ولا الوعي ولا المتعة القرائية مادة جاهزة في الكتاب تحتل عقل القارئ الفارغ إلا منها وتأسر وعيه وتقولبه؛ فليس شيء من هذه المادة يصنع وعياً ذاتياً للقارئ دون فاعلية حرة منه.
وهذا منطق عام لفعل القراءة المنتجة لا تختلف ممارسته ولا نتائجه بين كتاب وآخر، ولا بين حقل معرفي وثقافي وفني وآخر. والجديد فيه هو توصيفه ضمن سياق فلسفي وثقافي أتاح التأمل فيه، أما ممارسته فقديمة مذ كانت القراءة؛ إذ لا يمكن تصور الوعي والثقافة والعلم والمتعة إيجابياً لدى القارئ دون فاعلية منه.
وعلى رغم ذلك فلا أحد يستطيع أن يعمم هذه الصفة على كل قارئ؛ فهناك من يقرأ قراءة سلبية؛ فيحيل ذاته إلى وعاء لاستيعاب ما يقرأ ولتشرُّبه ونسخه وتجميع معلوماته وصوره، وليس إلى وجود فاعل، ولكننا لا نستطيع أن نتصور وعياً حراً يَنتُج عن هذه القراءة بل وعي مأسور ومنتقَص وعدمي.
وإذا كانت معارض الكتب، كما هو حال معرض الرياض الدولي للكتاب هذه الأيام، تصنع للكتاب احتشاداً بهيجاً باسم العلم والثقافة والوعي، فإننا نغفل عن أن المعنِي بهذا الاحتفال هو القارئ، بقدر يساوي الاحتفال بالكتاب والمؤلف أو يفوقه.
فمن دون هذا القارئ الذي يحيل القراءة إلى وعي وثقافة وعلم، يمكن أن نعلن عن معارض الكتب تحت اسم تجارة الكتب، أو ترويجها، أو الدعاية الفئوية والإيديولوجية... أو أي شيء آخر، إلا أن يكون باسم العلم أو الثقافة أو الوعي.
ولا يستطيع أحد أن ينكر أن وعي القراءة في المملكة أخذ في التحسن، بزيادة أعداد المعنيين بالكتاب والقراءة، وبنوعية القراءة التي يمارسونها.
ولذلك دلائله في أصناف الكتب التي تروج أحياناً وكميتها، وفي الجدل بشأنها أو بشأن قضايا الفكر والثقافة والمجتمع، في مساحات التواصل والرأي التي يمكن الاطلاع عليها، وفي الملتقيات والمناسبات الثقافية، وفي بعض ملامح سوق الطباعة والنشر.
وقد نقول إن ذلك هو ما يفرضه العصر، الذي لا يمكننا الانعزال عنه، ولكن المهم بإزاء ذلك أن نفطن إلى ما يفرضه العصر نفسه من وسائل التجهيل والقولبة والتنميط، وإلى استيقاظ روح شعبوية متوحشة وانعزالية بأكثر من لافتة، واجتياحها الحس الفردي الذاتي، وهو مناط كل وعي مستنير.