هو أبومغيث الحسين بن منصور الحلّاج، ولد في بلاد فارس، في منطقة يقال لها: البيضاء، لكنه نشأ في العراق، واتصل سببه بسبب الصوفي الشهير السنّي سهل بن عبدالله التستري، ثم بـ«شيخ الطائفة»، الجنيد، وكان الجنيد يسمّى شيخ الطائفة، أي طائفة الصوفية، وكان الجنيد معظماً عند أحمد بن حنبل، وتصوفه سنّيّ، وكان يقول دائمًا «طريقنا هذه مقيدة بالكتاب والسنّة»، فهو تصوّف سنّي معتدل.
ثم انفصل الحلاج عن الجنيد وطريقته، وتعلم السيمياء والسحر، وأخذ يمخرق على الناس – كما ذكر أصحاب التراجم – فيخرج لهم فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، كما قالوا، وقد تبرّأ منه كثير من الصوفية (السنيّة).
ارتفع قدره وعلا شأنه، حتى راسله الناس، واغترّ به العامّة، فكان أهل بغداد يسمّونه المصطلَم، وأهل البصرة المحيَّر، وأهل الهند المغيث، وأهل خراسان أبا عبدالله الزاهد، وأهل تركستان المقيت، وأهل خوزستان المقيت. نقل هذا ابن خلكان في وفيات الأعيان، وسواءٌ صحّ أم لم يصحّ فهو يشير إلى ذيوع صيته، وإلى تمكنه من قلوب الناس ورواجه فيهم. وهذا – بلا جدال – خطَرٌ على ولاة الأمر.
يقلق هذا الصيتُ الذائع – لأنه سلطة رمزية – السلطاتِ الماديّة، وقد يجري التنازع والشقاق بين أهل السلطة الرمزية (سلطة العلماء) والسلطة المادّيّة (سلطة السياسيين)، وقد جرى هذا في التاريخ مرارًا، وقد يجري التصافي والتواؤم بين السلطتين، وهذا أيضًا جارٍ في التاريخ.
لا يعقِل السابقون – البتّة – أن تقوم دولة بلا نظرية دينية سياسية، فكل دولة قامت في تاريخنا كان لها «أيديولوجيتها» الخاصّة بها، سنيّة أو شيعية أو إباضية أو غير ذلك. وكان الخارج عن «عقيدة» الدولة، مفارقًا للجماعة، مبتدعًا، وكان من يجهر ويعلن بغير هذه «العقيدة»، معدودًا في العملاء السياسيين، ومن قرأ مطولات التاريخ، كالبداية والنهاية لابن كثير، أو من قبلِه الكامل لابن الأثير، تبلّج له هذا الأمر، وتجلّى تجلّيَ الصبح.
ولم تكن الدولة العباسيّة، ولا سيّما بعد عهد المتوكل، بمنجاة من قيام جماعات خارجة عن السلطة، ومحاربة لها، وداعية إلى مذاهب مفارقة لمذهب الدولة الذي كان يتمطط ويتقلص كـ«الزقزاق» أو «الزنبرك»، بحسب السياقات والأوضاع والأحوال.
وهناك عامل مهم جدًا، أثّر عميقًا في كتب العقائد، وفي «الموقف من الآخر» في تراثنا، هو قيام الدول الخارجة على الدولة العباسية، والتي تتبنى «أيديولوجيات»، وعقائد مخالفة لمذهب أهل السنّة، وقد كان هذا غائبًا عنّي مدة طويلة وأنا أقرأ متون العقائد، من دون أن أستحضر أثر الواقع في كتب العقائد ومتونها؛ إذ أصول الدين التي هي حقًا أصول الدين، ما ورد في القرآن، وصحيح السنة النبوية. أما ما يفهمه البشر على طريقة علماء الكلام، أو الفلاسفة المشائين، أو أهل الظاهر، أو أهل الباطن، فهو فهمهم هم، غير أنهم يسمّون ما يفهمونه «أصول الدين»، ثم يصنّفون الناس وفق فهومهم التي جعلوها للدين أصولًا!
ظهر القرامطة على يد الجنابي بعد عام 270 هـ، وهم قوم متشيعة باطنيّة، يقولون بسبعة أئمّة (لا اثني عشر إمامًا كما يقول الاثنا عشرية)، ولهذا يسمَّون السبعية، وكانوا ثوّارًا، وكانوا على اتصال بدولة المهديّة الفاطمية في «إفريقية»، وهي التي تسمّى تونس اليوم.
وقد ورد أبو طاهر بن أبي سعيد الجنابي إلى الأحساء بغرض «التجارة»، ولكنه كان يدعو سرًا إلى مذهبه الغالي، حتى اجتمع له كثير من الأتباع من الأعراب وغيرهم، فأعلن قيام دولته عام 286 هـ، أي قبل مقتل الحلاج بـ25 سنة، فأعلن الحرب على المجاورين، ووصل إلى قريب من البصرة. فكان بهذا داعيًا إلى دولة جديدة، وخارجًا على الدولة القائمة.
ولمّا كان مذهبهم يقوم على نفي الصفات، وعلى الحلول والاتحاد، وكانوا معتنين بالسيمياء والسحر والحساب وغيرها، تجد في التراث ذمّ هذه العلوم، وعدّها من علوم القرامطة.
فإذا ظهر رجل يقول كلامًا غريبًا يشي بالتشيع، ويتعاطى الكيمياء (أو السيمياء)، ويتكلم في هذه الفنون، حامت حوله الشبهات، وخيف منه. فإذا كان له جماهير يتأثرون به، واحتفى به زعيم، أو التف حوله العوام، اشتد خطره. فإذا مزج هذا بالنيل من وليّ الأمر، والاعتراض على السلطان؛ فقد تلبسته التهمة، وقُرِّر التخلص منه.
وهذا ما وقع للحلاج، كان يقول كلامًا لا يفهم إلا على أنه باطنيّة، وهو مذهب القرامطة، وأخذ يتعاطى الكيمياء والمخاريق، وينال من وليّ الأمر، ويظهر التشيّع، ويلتفّ حوله العامّة. فتكاملت فيه – إذًا – أسباب الاتهام، وترجّح جانب التخلص منه.
ثم فوجئت وأنا أقرأ سيرة الرجل تحليلًا للإمام أبي المعالي الجويني، يشير إلى هذا الاستنتاج، فقد قال أبوالمعالي الجويني إمام الحرمين ما حصيلته إن الحلاج كان متواطئًا مع أبي طاهر بن أبي سعيد الجنابي، يدعو إلى مذهب القرامطة في العراق. والدعوة يكفي فيها – كما هو مقرر في بعض كتب العقائد – أن يعلن عنها صاحبها، وأن يجهر بها، ومن هنا نفهم ما معنى «الداعية إلى البدعة»، فالداعية إلى البدعة هو داعية إلى دولة، لما قدمّت في أول المقالة، من أنه لا يمكن للسابقين تصور دولة بلا «دعوة»، وتجد في التاريخ كثيرًا هذه الثنائية «دعوة/‏‏ دولة»، ولا سيّما في دولة العباسيين، فإذا قرأت في التاريخ أن فلانًا كان ينشر «الدعاة» في الآفاق، فاعلم أن هؤلاء ما كانوا دعاة مذهب فقط، بل كانوا دعاة لـ«أيديولوجيا الدولة» المراد تأسيسها.
قتل الحلاج عام 309 هـ، في الوقت الذي كانت فيه الدولة العباسية مهددة كل التهديد من هؤلاء القرامطة الباطنية جنوب العراق، وبعد مقتل الحلاج بعامين فقط، وطئت خيول القرامطة البصرة، وفعلوا فيها الأفاعيل.
قراءة التاريخ مهمة جدًا في قراءة العقائد، وأحسب أنها تجيب عن كثير من الأسئلة المحيّرة، وتقدم تصوراً عما كان يجري وراء الأكمة، وأعني بما وراء الأكمة متون العقائد وكتبها، وأعني بما وراءها السياقات والأحوال والأوضاع السياسية والاجتماعية.
وبهذا، أزعم أنا أن الحلاج كان قتيل السياسة، لا قتيل التصوف، وكان قتيل القرمطة لا قتيل الفناء والحبّ، وقال مثل هذا في السهروردي، وفي غيره من قتلى «الرأي» في التاريخ، إما بحق وإما بباطل، هذا، والله تعالى أعلم.