كم كرة (بينغ بونغ) تحتاج لتملأ سعة باص مدرسي؟ كم يبلغ وزن طائرة الـ(بوينغ – 747)؟ وإذا افترضت أنه قد تم تصغيرك بواسطة شعاع فضائي ما بحيث أصبح طولك لا يزيد عن 10 سم.. ثُم تم وضعك داخل خلاط كهربائي ماركة (مولينكس)، فكيف ستنجو بنفسك من الفرم؟
هذه الأسئلة التي تبدو مغرقة في السخف.. كما يبدو.. ليست مأخوذة من صفحة (واحة القارئ) ولا مقتبسة من برنامج مسابقات. بل هي عينة من أسئلة المقابلات الشخصية التي طُرحت على متقدمين لامتحانات توظيف بشركات كبرى! وقبل أن تنتفخ أوداجك ثورة على قلة الأدب هذه.. قبل أن تسوق الحجج وتستدل بالوارد أعلاه لتبرهن على مسخرة سوق العمل التي لم تكتف بـمرمطة الأبناء والبنات بين مقاعد الدراسة والتدريب لتشهر أيضاً أسلحة التعجيز في وجوههم وتقضي عليهم بالبطالة الماحقة.. أحب أن أطمئنك: هذه الأسئلة لم توجه للمتقدمين لوظائف في وطننا الكريم. بل هي مثال لما يطرح في مقابلات التوظيف بأميركا.. داخل أروقة شركات من تلك التي باتت تحدد ملامح هذا الزمان مثل (مايكروسوفت) و(آمازون).. و (جوجل) التي تعتبر –بالمناسبة- من أفضل أماكن العمل عبر البلاد الأميركية بأسرها.
كيف تكون (جوجل) هي أفضل موظِف في الولايات المتحدة، وتعرّض المتقدمين لوظائفها للإحراج عبر هذه الأسئلة المستحيلة؟ وكيف تكون تلك الشركات على ذلك القدر من العظمة والصيت والإبهار في منتوجاتها وخدماتها، ثم تنحدر لهذا المستوى من التعامل؟ بالتأكيد هو مستوى منحدر! لأن مثل هذه النوعية من الأسئلة لو تم توجيهها للباحثين عن العمل في بلادنا.. لو تم اعتمادها لقبول الطلاب في الجامعات والمهندسين والاستشاريين في المناصب.. فإننا لن نسكت . سنكتب ونشتكي ونطالب بمعاقبة المسؤولين عن هذه المهزلة.
لماذا لا تعلن هذه الشركات منذ البدء أنها لا تريد أن توظف أحداً عوضاً عن إحراج الشباب الطموح الباحث عن عمل قبل رفضهم بهذا الشكل؟!
الأدهى..أن القائمين على التوظيف بتلك الشركات العملاقة يقولون إنهم لا يملكون إجابات على أي من تلك الأسئلة (!!).. وأنه ليست هناك إجابات قاطعة لها أصلاً. لكن ما يهدفون له عبر طرحها هو مراقبة طريقة تعامل الشخص مع المسائل غير البدهية.. والأسلوب الذي سيتبعه لتقديم حل ما اعتماداً على قدراته العقلية وحدها.. وعلى مخيلته. إنهم يقيسون مدى قابلية المرء للانحناء أمام الأعاصير الفكرية بدون أن ينكسر.. قابليته للتفكير خارج الصندوق!
كل هذا الكلام يحضرنا ونحن نتأمل خريجينا الذين يتقدمون يومياً ليعبئوا منخل الوظائف الشاغرة. متسلحين بالأشمغة المنشاة وشهادات الجامعات ومكالمات التزكية والتوصية. ثم يُرفضون.. أو يُقبلون بعد مصافحة وفنجال سريع.. سيّان. هؤلاء وأولئك يثيرون اهتمام المراقبين وناقدي المجتمعات ويحرضونهم على المساءلة: أين هي قيم (الكفاءة) الحقيقية. ماذا عن (التأهيل) والتنافسية والجدارة وسواها من مفردات المهارة؟ أين هي (الخبرة) في الميزان. كيف يوظَّف هذا ولماذا لا يوظَّف ذاك؟ ثمة إحساس بأن ما يحصل في عالم التوظيف لدينا لا يتماشى وقواعد الاحترافية الأصيلة المعمول بها في.. في دول أكثر تطوراً منا!
لكن تلك الدول المتطورة التي نستند نحن على أطراف أصابعها تطرح على موظفيها أسئلة من العيّنة أعلاه؟ هل يناسبنا هذا؟ هل كان سيخفف من نقمة عاطلينا وشبابنا والباحثين عن تطوير أنماط حياته منا؟ أم إن المسألة لا تستحق المقارنة؟ لأنه شتان بين الاقتصاد المؤسساتي الإنتاجي، وبين اقتصادنا الريعي الاستهلاكي ومتطلبات وظائفنا التي لا تقدم في الواقع شيئاً.. لا يستحق المقارنة والذكر؟!
إذا كان الحال كذلك، فلماذا نثير الضجيج؟ ولماذا لا نخلق وظائف إبداعية أولاً ثم نتشاجر لاحقاً على كعكتها؟
كم كرة (بينغ بونغ) تملأ حافة مدرسية؟ حوالي نصف مليون.. هذا إذا افترضنا أن الحافلة هي بما يوازي 50 كرة ارتفاعاً و50 كرة عرضاً و 200 كرة طولاً. كيف تهرب من الخلاط (المولينكس) المرعب؟ انتظر.. مثلاً.. حتى تبدأ مروحته بالدوران وسيحملك التيار الهوائي للأعلى! على عاتق من نضع مسؤولية التدهور في حال إبداعنا ومبدعينا.. على الحكومات أم الجامعات أم على المبدعين أنفسهم؟ لا هؤلاء ولا هؤلاء.. بل على القطاع الخاص والمستثمرين أصحاب رؤوس الأموال الطائلة الذين حوّلوا قطاعهم لماكنة لجني الربح بدون أي منتَج حقيقي مفيد.. وهي الأحجية التي لن تجد لها حلاً في نهاية أي صفحة!