الإبداع هو مرآة تظهر من خلالها تطلعات المجتمع وأحلامه وقدراته، وتعكس مدى الدعم الفردي والمؤسسي للمبدعين وتقديرهم واحترام منجزاتهم، بخلاف المجتمع المتخلف المستخف بالمبدعين
«لن أنسى ذلك اليوم الذي شعرت فيه بأنني أعيش حلمي حقا. فقد كنت أقود طائرتي الهليكوبتر متجها من اجتماع عمل كنت حضرته في لوس أنجلوس إلى مقاطعة أورانج. وبينما كنت أحلق فوق مدينة جلينديل تنبهت فجأة لبناية كبيرة وأخذت أحوم حولها، وأتذكر وأنا أنظر إليها من فوق بأنني كنت أعمل فيها بوابا قبل اثنتي عشرة سنة فقط»! بهذه المقدمة الملهمة بدأ أنتوني روبنز كتابه «أيقظ قواك الخفية».
يكمل قائلا: «ما إن نزلت في موقع الهبوط حتى بدأت أرى صورة مختلفة كل الاختلاف. إذ كان رجال الأمن يقفون في وجه الألوف ويحاولون منعهم من الوصول إلى حيث كانت طائرتي تهبط. وحينذاك أدركت الواقع. ذلك السيل من السيارات الذي رأيته على الطريق وأنا في طائرتي هو لأولئك الذين أتوا لحضور “محاضرتي” أنا!».
يختم القصة القصيرة ليحكي لنا ما دار في خلوته وهو قافل من رحلته القصيرة التي لن أنساها ما حييت: «وحين حلقت بي الطائرة لأنفرد بضوء القمر كان عليّ! أن أقرص جسمي متسائلا: هل حقا ما رأيت؟ هل أنا نفس الشخص الذي كان خائبا يجر أقدامه ويشعر بالوحدة، وبأنه لا يستطيع أن يتبين طريقه في الحياة منذ ثماني سنوات؟، كنت بدينا، مفلسا، أتساءل إن كنت أستطيع أن أكسب قوت يومي؟ كيف كان يمكن لصبي مثلي لا يحمل أكثر من الشهادة الثانوية أن يبتدع هذه التغيرات الدراماتيكية في حياته؟!».
لم أجد مقدمة لمقالي هذا أقوى من هذه القصة الواقعية القصيرة الملهمة لملايين البشر، والتي لن أنساها ما حييت، ولطالما استذكرتها في خلواتي، وأذكرها لمن أحدثه تحفيزا للبحث عن الذات، عن القدرات النائمة في داخله.
تذكرت مقدمة أنتوني روبنز أيضا عندما التقيت هذه الأيام بالعالمة السعودية حياة سندي في إحدى المناسبات الرسمية. كانت على المنصة تتحدث عن مشروعها في التخيل والبراعة، حدثت نفسي؛ كم عندنا، محليا، من أنتوني روبنز، بل وربما أعظم منه؟ حينما كان أنتوني «ناطورا» لتلك العمارة، لابد أنه كان لديه «تخيل وبراعة» أيضا، ربما كان ينظر للأفق أثناء «الخفارة» وإذا به، بعد بضع سنين، يحلق في الأفق بطائرته لينظر إلى حيث موضع الحراسة! حياة سندي ربما لم يكن حالها سابقا بتلك الصعوبة، كما هو حال روبنز، غير أنها قدمت علوما بشرية تفوق ما قدمه روبنز. حياة الدكتورة حياة تستحق أن تكون نموذجا ألمعيا لبنات وسيدات الوطن، رغم الصعوبات التي يواجهنها، في مجتمع يرى الذكورية في كل تفاصيل حياته اليومية. تجربة جديرة بأن تكون ردا عمليا على مواطناتها اللاتي اخترن الفشل في تحدي المصاعب، وهربن لأميركا وكوريا وغيرهما، بدعوى عدم قدرتهن على التعايش في بلادهن.
لقد اختيرت السيدة حياة ضمن 26 خبيرا عالميا من قبل الأمم المتحدة، وحصلت على جائزة كلينتون للمواطن العالمي?،? وهي من بين 50 مفكرا في أكاديمية روبرت بوش الألمانية. وفي الصين، كانت ضمن لجنة تحكيم دولية لمنح جائزة تعليمية نسائية بالتعاون مع اليونيسكو. وهي حاضرة في ماليزيا كعضو في المجلس الاستشاري العالمي للعلوم والابتكار، وفي الشرق الأوسط، هي أول امرأة تحصل على شهادة الدكتوراه في مجال التقنية الحيوية من جامعة كامبريدج العريقة.
الدكتورة سندي ليست السعودية المبدعة الوحيدة، فقد أضحت المملكة العربية السعودية منارة عربية وعالمية بفضل المجهودات الهائلة المبذولة للارتقاء بالحركة التعليمية، وخاصة في مشاريع الابتعاث، التي قدمت لنا نماذج علمية عالمية، كالدكتورة خولة الكريع والدكتورة غادة المطيري والفقيدة سامية ميمني وغيرهن الكثير، أثبتن قدرتهن على الوصول للعالمية من خلال مساهمات عظيمة، قدمنها للعالم وخصوصا في المجالات العلمية شديدة التخصص والتعقيد.
الإبداع هو مرآة تظهر من خلالها تطلعات المجتمع وأحلامه وقدراته وتعكس مدى الدعم الفردي والمؤسسي للمبدعين وتقديرهم واحترام منجزاتهم، بخلاف المجتمع المتخلف المستخف بالمبدعين، وغير العابئ بأهميتهم وقيمة أدوارهم فيه، هو في الواقع يحطم مرآته التي من المفترض أن يرى فيها عطاءه ونهضته بين شعوب الأرض.
«كل شخص يملك خيالا مبدعا، وليس هناك شخص أكثر إبداعا من الآخر، الفرق أن البعض اختار استخدام خياله الإبداعي أكثر من الآخر». مقولة تبحث عن صاحبها.