يحلق الروائي السعودي طاهر الزهراني في روايته الأخيرة «الفيومي» في عوالم جديدة، عازفا على نغمات الماضي والحاضر، متكئا على توليفة مدهشة من القص الواقعي والتخيلي، ناسجا رواية تستحق أن تقرأ، وتبعث في نهايتها المفتوحة على الدهشة، وعلى التأويلات.
كمنعرج أول تلامس رواية «الفيومي» بطولة الجندي عطية على الحد الجنوبي.. تتحدث عن مشاعره، تصور ذكاءه ولحظات اتقاده.. لماذا ذهبت ببطلك لتضعه على جبل الدخان؟
إذا سلّمنا بعملية الكتابة ونتائجها، فأنا لم أذهب به إلى هناك، هو من ذهب، البطولة في البداية لم تكن له، وإنما لشخصية تاريخية عاشت قبل قرنين من الزمان، كتبت عنها ثم بدأت تلك الشخصية تضمر مع الكتابة حتى تنازلت عنها لشاب بسيط محبط يدعى عطية الفيومي، يعيش في جدة دون عمل بعد أن تخرج من الجامعة، ولم يجد وظيفة سوى أن يلتحق بالجيش، ثم كانت الحرب عام 2009.
الأمر الآخر الأحداث في الحد الجنوبي لم تكن مقصودة بذاتها؛ وإنما هي موطن لإعادة النظر في الحال، والمآل، والحياة بعد الحرب.
عطية الذي يحتفل زملاؤه بإسكاته نيران القناص على الحد، يشعر في اللحظة ذاتها بالانكسار لأنه أزهق روحا.. لكن التحول المثير أن هذا الذي شعر بالرثاء حتى حيال عدو، يفقد هذا الإحساس وهو يطلق النار على الشيخ «هياس» الذي جرده من زوجته ويريد النيل من أرضه أيضا؟ ترى ما الذي تغير؟
هناك شعور مضطرب يعيشه من هو في ساحة الحرب، في لحظة النار لا يفكر الجندي بأحد في تلك اللحظة سوى بنفسه، كيف ينقذها من براثن الموت، وبعد ذلك يسأل عن النفس في الضفة الأخرى، عن الظروف والحيثيات التي تحيط بها، لهذا هو خارج نفسه يفكر في النفس المقابلة له، قرأت أن نسبة كبيرة من ذخيرة الحرب، لم تكن تذهب لرؤوس وقلوب الأعداء، وإنما تذهب هدرا في الأرض والسماء، وهذا يعود لشعور الإنسان الحي نحو الإنسان الآخر، الإنسان الذي هو الطرف الأضعف وسط صراع مصالح، وقرارات مصيرية، يكون الإنسان البسيط هو الطرف الخاسر بكل صور الخسارة المريعة.
أما ما حدث مع عطية وهياس، فهو بين طرفين واضحين، وقع على أحدهما الظلم، وحاول ردعه والتنازل قبل الدم، لكن أصر الظالم على ظلمه حتى جرده من شطره، وأراد سلب أرضه، التي هي ليست مجرد أرض وإنما أمر أعظم من ذلك له علاقة بالهوية والبقاء. عطية حاول أن ينحاز بنفسه عن قبح الحياة، لكن القدر كان له رأي آخر، لهذا عطية دخل في مسار ليس هو وحده من يحدده، وإنما أمور خارجه عن كيانه واختياراته الرومانسية.
من سبقونا في الماضي كانوا أكثر تحضرا
في روايتك تلامس انقسام المجتمع في تقبله لأولئك المنحدرين من جذور للوافدين حتى لو ولدوا في هذا المجتمع وتربوا وترعرعوا وعملوا وشاركوا أبناءه الهم والانتصار، وقد انحدر عطية من جدة فيومية ولدت وعاشت وتزوجت وأنجبت على هذه الأرض.. لماذا لفتت هذه الجزئية ذهنك، وماذا أردت أن تقول من خلالها؟
هناك أحداث وأفكار ليست من خلق الكاتب، وإنما خلقت معه، وحتى لا أزخرف الكلام، كما قلت سابقا، لم يكن لدي تصور عن العمل، وإنما هي أشياء عرضت أثناء الكتابة، ومن خلال الأحاديث مع الوالدين، انبعثت سيرة جدتي التي قدمت من مصر قبل قرنين، ولا أدري لماذا أردت أن أعرف التاريخ الذي قدمت فيه، ومن خلال تتبعي لشجرة العائلة، اكتشفت أن جدتي هذه قدمت للحج قبل نهاية الدولة السعودية الأولى، وهي نفس الفترة التي أكتب عنها، فأردت أن أبعثها من جديد، ربما حضورها هو ما سبب ضمور البطل التاريخي الذي كنت بصدد الكتابة عنه، ومما لا شك فيه أنها أعادت صياغة الرواية بشكل آخر، بحيث رُفع الهامش، وهمش المتن!
الأمر الآخر، وربما ألمحت لذلك عندما أشرت للآية الكريمة كعتبة للنص، أنا، أنت، نحن، الجميع نتاج صيرورة الإنسان وحركته الدؤوبة في عمارة الأرض، هذه الأرض التي هي ليست لأحد سوى الإنسان، الذي وجد نتيجة التعارف الذي سنه الله للبشرية.
الاقتران بامرأة من خارج القبيلة في القرون الماضية كان يعتبر مفخرة، وقد تنسب أسرة في تهامة لامرأة أتت من البصرة أو من صنعاء، وفي هذا دلالة واضحة لا تقبل الشك أنهم كانوا أكثر تحضرا منا من حيث العلاقات الإنسانية، وهذا أمر يدعو للغرابة!
وبالمناسبة وأنا أكتب الرواية كنت مهتما بتاريخ الهنود الحمر، نظرا لقرب ثقافتهم، وعادتهم وتقاطعها مع ثقافتنا العربية تحديدا في جنوب الجزيرة العربية، ونجد هذا في مذهبهم القبلي، ورقصهم، وصيحاتهم أثناء الحرب، وملابس النساء، وحتى موسيقاهم، فآلة الناي عندهم تشبه ما يسمى عندنا بـ«الصفريقا» والكثير من التقاطعات، وقد وقفت على بعض الكتب والأبحاث التي تحدثت عن الحضور العربي في الأميركتين قديما.
وبما أن طقوس الكتابة تستهوي البعض؛ فهذه الرواية كتبت تحت تأثير موسيقى الهنود الحمر.
لم أجازف باستعمال اللهجة الجنوبية وغيابها يخفت جمال العمل
مع اللغة الراقية العذبة بإيقاعها القصصي السلس والسريع، تغرق حوارات روايتك في محليتها الجنوبية الطاغية؟ ألا تخشى أن تؤطر هذه اللهجة من انتشار روايتك خارج محيط أحداثها، أو خارج العارفين بهذه اللهجة؟
كنت واعيا لهذه القضية تحديدا، وكنت متقصدا أن أوظف اللهجة الجنوبية بهذه الطريقة، ولا أقول كنت مجازفا عندما تخليت عن فكرة الحاشية المفسرة، فقد عرضت فصلا على صديق من الإمارات، وآخر من المغرب، حتى أعلم مدى استيعاب القارئ لكلمة مثل»الصفر«وهي ظروف الذخيرة، فنحن نقول للنحاس»صفر«من أجل لونه، صديقي الإماراتي أخبرني أنهم يتقاطعون معنا في نفس المفردة، والتي لها وجه في اللغة، أما صديقي المغربي فذكر لي أنه عرفها من السياق، وهذا ما أؤمن به أن الكاتب لابد أن يثق بذكاء القارئ، وفطنته، ووعيه الذي قد يفوق وعي الكاتب أحيانا. هناك أمر آخر له علاقة بهوية المكان وأصالته، وقرب المفردة من العربية الأزدية تحديدا، وانسجامها مع الطبيعة، والمكان والأحداث، إذ بغيابها يخفت جمال العمل ويفقد بعض أصالته.
غير بعيد عن اللغة التي ترتسم على نسق شاعري جميل في أعمالك نجدك ميالا إلى العمل الروائي القصير، هل تتعمد هذا الشكل من الأعمال مراعاة للقارئ الذي يعيش بإيقاع سريع دون جلد على مطالعة الأعمال الضخمة، أم أن مقولة العمل هي التي تفرض مساحته طولا أو قصرا بالنسبة إليك؟
لا هذا ولا ذاك، أنا ببساطة أكتب دون إحاطة بأحداث العمل، ولا بحجمه، لكن ما أفعله في النهاية هو المحو، عندما أنتهي من كتابة أي عمل، فإني في الغالب أحذف أكثر مما أضيف، أحرص على تماسك العمل، وبعده قدر الإمكان عن الحشو، وربما هذا بفضل كتابتي للقصة القصيرة، فقد هذبتني من هذه الناحية.
بعيدا عن الكتابة، أنا قارئ أولا، وقارئ للرواية تحديدا، وأقول يندر أن تجد رواية سلمت من الحشو-نظرا لكون الرواية عملا فضفاضا- هذا الحشو يختلف من عمل لآخر، لكن بقدر تجنب الكاتب له، بقدر قرب عمله من الجودة والإتقان، ولا أقول إن أعمالي سلمت منه، لكني بمجرد ما أقف عليه، أو أكتشف أن هناك مشهدا زائدا، أو حوارا، أو حتى جملة مجانية، لا أتردد كثيرا في حذفها.
في مسودة هذه الرواية حذفت ما يقارب 5000 كلمة، ولم أندم عليها، أنا أرى أن الكاتب لابد أن يتحلى بالشجاعة تجاه نصه.
في»أطفال السبيل«.. ثم في»الفيومي«.. وربما في بقية أعمالك دائما تأتي نهاياتك مفتوحة، فعطية الذي يصحو مصابا في المستشفى يهلوس»الجبال.. الجبال«، ثم تضع كلمة»تمت«في نهاية العمل.. لماذا تتعمد هذه النهايات؟
وفي أغلب أعمالي، هذه النهايات المفتوحة تجعل عوالم الرواية مشرعة دائما، وتجعل من»ثم ماذا؟» سؤالا يبعث التصورات والاحتمالات، مما يحدث حياة أخرى خارج الكتابة، داخل القراءة، هذه النهاية تجعل العمل حاضرا في ذهن القارئ، سابحا في عالم الغيب، كلما حضر له، لكن كل نهاية بحاجة لنهاية مكتوبة بفن، وهذا ما يميز نهاية عن غيرها.
تكافؤ النسب طريقة صادمة لتفريق زوجين متحابين
الواقع هو قوت الأفكار ومنبعها.. ومن هذا الواقع عرّجت روايتك في منعرج ثانٍ ومفصلي لتتناول مسألة تكافؤ النسب؟ هذه المسألة التي تفرق بين الزوجين العاشقين عطية وغالية؟ ما الذي حرضك لملامسة خطها الأحمر؟
تكافؤ النسب هو الطريقة الوحيدة والغريبة والصادمة لتفريق زوجين متحابين!
عندما نجعل للحمقى، والجهلة طريقا للعبث بحياة الناس، وقطع حتى العلاقة المقدسة بينهما، سنجعل من الحياة التي من المفترض أن تكون متماسكة في منتهى الوهن، ربما أردت في الرواية أن أجعل الإنسان، والجمال، هو الشيء الأضعف، والهش، والزائل، أمام الجهل، والقبح، والبشاعة، وهنا يأتي دور الفن في إثارة مثل هذه الأمور وتسليط الضوء عليها، ربما وقع ذلك دون وعي مني. وفي الرواية تعريج أيضا على التكافؤ الطبقي تحديدا فيما يخص الصناعة، التي يعتبرها البعض وضاعة ودناءة، وهو ما يطلق على صاحبها بـ«الصانع» وهو ما ينظر له حتى وقتنا الحالي بنوع من الازدراء، في مسألة الزواج مثلا، قد يرفض أحدهم لكون أهله من «الصنّاع!
عطية سكن في قرية شبه نائية، فبالتالي لابد أن يتولى هو صنع الأشياء، ومعالجتها، فلابد من الحدادة، والنجارة، وغير ذلك مما لا تقوم سبل العيش إلا به، ولا يكتفي بالعمل لذاته، وإنما قد يساعد الآخرين ويقدم لهم خدماته تفضلا منه، لك أن تتصور أن هذا الشخص الذي لا تقوم مصالح الناس إلا بحضوره، ترفضه القبيلة لكونه يمارس عملا يخصه.
تقول في الرواية» في قريته حتى الجمادات لها أسماء، ومع هذه المسميات تصبح الجمادات مخلوقات حية ترتعش، في الجبل أنت لست وحدك«.. أنسنة الجمادات ترف إضافي يضيف للرواية بعدا جماليا.. هل كان هذا البعد هو هاجسك الأوحد لهذه الأنسنة أم أردت منه أشياء أخرى؟
هذا الأمر تشعر به، لا يستطيع أحد أن ينقل لك هذا الشعور بكل أثره، وانطباعاته، أنسنة الجمادات في القرية، ليست ترفا فنيا، وإنما هو من صميم الحياة هناك، هو ذاك الشعور الذي تشعر معه أنك والمكان في اتحاد وجداني، وهذا ما حاولت نقله للقارئ.
ومثل الشعور نجده في ثقافة الشعوب، وآدابهم، فشاعر المايا الكبير أمبرتو أكابال، عندما تقرأ قصائده تشعر بهذا الإحساس تجاه الأشياء.