ليس من السهل – في بعض بلادنا العربية - أن تخالف، بل ليس لك الحق أصلاً في الاختلاف، وإنه لمن العسير أن تفكّر باستقلال، وأن يكون لك رأيك الخاص

لكل إنسان ذمته الخاصة، وتكليفه الخاص، وقد قال علماء الأصول إن العقل شرط التكليف، أي أنه لا تكليف إلا على عاقل، والقول الصحيح الذي ذهب إليه علماء الكلام – خلافاً للفلاسفة المشائين – إنه ليس هناك جوهر كلّيّ اسمه العقل له وجود متحقق في الخارج، لا أدري أين! وقد خالفهم علماء الكلام المسلمون وهزئوا بهم لقولهم بجوهرانيّة العقل، وللجهبذ الفذّ الفريد شيخ الإسلام ابن تيمية نصيب الأسد في التراث الإسلامي في نقض هذا القول والهزء به وبقائليه، وقد أطال البحث كثيراً في إثبات أن الكليّ لا يكون في الأعيان البتّة، بل وجوده وجود ذهنيّ تصورانيّ.
والحصيلة أنه ليس هناك جوهر موجود في خارج الأذهان اسمه العقل، بل ما ثمّ إلا عقلي وعقلك وعقل فلان وعقل فلانة، وإذا كان العقل شرط التكليف، فليس المقصود بهذا جوهراً يدعى العقل، بل المقصود العقل القائم بكل شخص، منفرداً، على حدة.
بناء عليه؛ كل إنسان مكلف بعقله هو لا بعقل غيره كائناً من كان هذا الغير، فأنا مكلف بعقلي، لا بعقل غيري، لا مفرداً ولا جمعاً، حتى لو كان أعلم العلماء، وأتقى الأتقياء.
وقد اختلف العلماء في الاجتهاد والتقليد، فمن العلماء من حرّم التقليد على كل أحد، وأوجب على كل أحد أن يبذل جهده، رجلاً كان أو امرأة، عالماً كان أو عاميّاً، وأن يستدلّ بنفسه، ويعمل عقله، ويبذل جهده في الدلالة والاستدلال، وألا يقلد أحداً في دينه – ولا سيّما في أصول الدين والعقائد -. ذهب إلى هذا المعتزلة، والزيدية، وكثير من الأشاعرة، وأطال فيه ابن حزم أيما إطالة، وهاجم فيه خصومه بطبعه الحادّ، ولسانه السليط.
المفارقة هنا أن واضعي ما يسمّى شروط الاجتهاد لم يكن أكثرهم من المجتهدين! ونقيض المجتهد المقلّد عند الأصوليين؛ أي إنك ما لم تكن مجتهداً فأنت مقلد، حتى إن كنت تحفظ كل ما خطّه علماء مذهبك عن ظهر قلب، وقد قرأت نصاً لمحمد بن عبدالوهاب نسيت أين قرأته، كان يعيب فيه على واضعي شروط الاجتهاد أن شروطهم هذه لا تتوافر في أكثر الصحابة المتبوعين.
بل إن علماء الكلام مختلفون في إيمان المقلّد، أي من أضحى مسلماً وهو لا يعلم لم هو مسلم؟ إلا أنه وجد على هذا آباءه وأجداده، فالإسلام ليس هويّة وانتماءً فقط، بل هو دين واجتهاد وتفكير وعقل واستدلال، فمن كان مسلماً بالتقليد المحض، ففي إسلامه عند بعض علماء الكلام المسلمين قولان! فتأمّل هذا.
وقد بحث علماء الكلام المسلمون – ولا سيّما المعتزلة – مسألة أول واجب على المكلف، ما أول واجب على المكلّف؟ فكان من أقوالهم الشكّ المفضي إلى معرفة الله! فهم يوجبون على كل عاقل أن يشكّ فيما وجد عليه آباءه، أهو الحق؟ أم لا بد من البحث للوصول إلى الحق؟ هذا ما اختصره حجة الإسلام أبو حامد الغزالي يرحمه الله بقوله: الشك أول مراتب اليقين، وبقوله:من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر يبقى في العمى والضلال.
والمقصود بالشك هنا الشك المنهجي المؤدي إلى المعرفة، وليس الشك العبثي المطلق، الشك للشك فقط، لأن الشك للشك فقط هو ما يسمّى السفسطة، فلا معرفة، ولا أخلاق، ولا قيم، ولا شيء من ذلك، ولا يمكن إقامة أي حجة على الشاكّ شكاً عبثياً، ولا يمكنه هو كذلك أن يقيم حجّة، إلا أن يتناقض فيقطع من حيث هو شاكّ إلى أبد الأبد، فيناقض نفسه. شاكٌّ ولكنه يقطع في الاستدلال!
هذا الذي سبق كله مبحوث معروف مبذول، ولا جديد فيه إلا الذكرى التي تنفع المؤمنين، وربما غير المؤمنين، لكنّ مشكلتنا اليوم ليست فقط في إعمال العقل وكسر الجمود والعيش في الواقع وقضاياه، ولكنها تمتدّ إلى حريّة التفكير، فليست القضية هي أن تكون مجتهداً في هذه الأيام أو مقلدًا، بل المشكلة هي: هل يُسمح لك أن تفكّر باستقلال ومن دون وصاية من أحد؛ غير هائب ولا وجل، ولا خائف من العقاب الذي يشوه سمعتك ويضرك في رزقك ووظيفتك؟
أعرف من الباحثين الفضلاء جداً، من كتب عشرة كتب وزيادة، كتبًا ليس بينها وبين أن يطلع الناس عليها إلا أن تطبع لا أكثر؛ غير أنه يهاب أن ينشرها؛ لأنه يخاف الضرر، والتسلط بالإيذاء وتشويه السمعة.
ليس من السهل – في بعض بلادنا العربية - أن تخالف، بل ليس لك الحق أصلًا في الاختلاف، وإنه لمن العسير أن تفكّر باستقلال، وأن يكون لك رأيك الخاص، وإن كنت قد توصلت إليه بالبحث المضني، والعمل الشاق، وجمع الجزئية إلى الجزئية، أو بالاستنباط من الكليّات.
بل إنها تعد اليوم بطولة من البطولات في بعض بلاد العرب أن تصرّح برأيك – ولست أعني بالرأي ما يقوله بعض الإعلاميين بطريقة مستفزة وبتفاهة منقطعة النظير، بل أعني به الرأي العلمي القائم على بحث مستفيض واستدلال يتفق والمعايير العلمية الموضوعية -، فمتى تأتي اللحظة التي يبتعد فيها الباحث الجادّ عن مواربة القول، ويقرع بالحقيقة التي بلغها الأسماع والعقول؟
يظن كثير من الناس أن على الباحث الحرّ أن يخالف المجتمع في كل شيء! وهذا ليس من حرية الفكر والبحث في شيء، فليس كل ما عليه المجتمع باطلاً، ولا كل سائد لا بدّ من التمرّد عليه، فقد يهديك البحث الحر إلى السائد عينه، فليس المقياس في حرية التفكير مخالفة المجتمع، أو بحسب ما يقوله بعض من يريد التميّز بأي ثمن؛ مخالفة القطيع. بل البحث الحرّ هو أن تفكّر مجتهداً من دون تأثير من أحد، ومن دون هدف إلا الوصول إلى الحقيقة، ثم لا عليك بعد هذا أن توافق السائد أو تخالفه.