مهاجمة الليبرالية نابع من تصور مشوش وانطباعات خاطئة ممزوجة بأزمة المصطلحات الغربية، بينما الحكمة ضالة المؤمن، إذ لا يوجد مانع شرعي من اقتباس نظرية أو أفكار عملية من الغرب والشرق

ماذا لو قال لك زميلك الجديد في العمل أنا ليبرالي؟
دعني أخبرك؛ سيدور في ذهنك لأول وهلة أن الرجل ملحد، غير أنك تراه يصلي معكم في مصلى العمل.
تستغفر الله على سوء ظنك، لكنك تستعيد الصورة الذهنية التي أصّلها السياق الجمعي في مخيالك عن النظرية الليبرالية وتعيد النظر في استغفارك، بل هو ليبرالي بعظمة لسانه وصلاته مجرد تمويه، غير أن المصادفة تجعلك تراه في مسجد آخر خارج العمل.
ستنتقل الفكرة إلى طرف آخر غير الإلحاد وتتجه إلى حيث هو متحرر في حجاب أهل بيته. تأتي مناسبة ويجتمع الزملاء في الاستراحة بالعائلات، تطلب من أهلك مراقبة وضع أهله، لكنك تنصدم بأن امرأته وبناته بعضهن يرتدين الحجاب وبعضهن يرتدين النقاب.
تسيطر عليك الدهشة جراء الصدمات المتتالية، ويتملكك الفضول وتود أن تستكشف تفاصيل حكاية هذا الليبرالي. تستنجد بأهل بيتك رغم أنك قد حذرتهم من الحديث معهم في الاستراحة. تسيّر عليهم أم العيال فتجد أناسا طبيعيين ويحين وقت الصلاة فيقمن بناته للصلاة ويقدمن للضيفة جلال الصلاة، تلمح أم عيالك أن المضيفة تقرأ أذكار المساء بُعيد صلاة المغرب.
في إحدى زياراتك لمكتبه تجده يقرأ القرآن، تبادره باستغراب، اليوم معك مصحف يا بو زيد؟
هذا وردي اليومي يا عزيزي!
لا يكون تقرأ جزءا كل يوم؟!
بل وجهان فقط!.
يا بو زيد أنت جننتني، تقول ليبرالي ولا أشوف فيك ليبرالية ولا يحزنون!
مشكلتنا في المفاهيم المغلوطة ومنها مفهوم الليبرالية. لقد سطروا لنا أن الليبرالية إلحاد وحرية وانحلال، بينما الأمر غير ذلك تماما. الليبرالية ليست عقيدة، بل سلوك وحقوق ومبادئ دعا لها الإسلام. الحرية المسؤولة الأدبية والاقتصادية والاجتماعية، العدالة والمساواة والحقوق المدنية والتعايش ومحاربة الاضطهاد والظلم والعنصرية. الليبرالية لا تعني أكثر من حق الفرد أن يعيش حراً له كامل الاختيار وما يترتب عليه من تسامح مع غيره لقبول الاختلاف. الحرية المنضبطة وحق الاختيار هما حجر الزاوية في الفلسفة الليبرالية، بمعنى له حق الحياة وفق قناعاته كما يَشاء هو لا كما يُشاء له.
الإيمان بحرية الفكر والرأي والتسامح واحترام كرامة الإنسان وضمان حقوق الأقليات والمساواة أمام القانون.
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ رواية مشهورة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله- هي صلب نظرية الليبرالية.
ولإن قلنا إن سلوك المسلمين لا يعكس بالضرورة الإسلام النقي، فكذلك هو الحال فيما يصدر من تجاوزات لأصحاب الفكر الليبرالي فلا تحسب على مبادئ الليبرالية السليمة.
لست مدافعا عن الليبرالية ولا أنتمي لأي فكر، إلا أن ما يزعجني هي المغالطات في الفهم الجمعي الذي لا يُعمل العقل ولا يُحسن التأمل، بل يُسلّم أمره لسلطان النسق السائد دون بحث وتمحيص لتكوين رأي مستقل دون تأثيرات خارجية.
الليبرالية تمضي مع السلم الاجتماعي وفق قيم وأخلاق المجتمع الذي يتبناها وتتكيف بحسب ظروفه، فلا تبيح -مثلا- الخمور ومعاشرة النساء في المجتمعات التي ترفضها. تلتزم باستقلال الفرد والحفاظ على الحريات الشخصية والسياسية والمدنية والحياد أمام جميع أطياف المجتمع.
مهاجمة الليبرالية نابع من تصور مشوش وانطباعات خاطئة ممزوجة بأزمة المصطلحات الغربية، بينما الحكمة ضالة المؤمن، إذ لا يوجد مانع شرعي من اقتباس نظرية أو أفكار عملية من الغرب والشرق.
قد يعمد المنغلقون إلى التحذير من السماع والاطلاع على أفكار الآخرين، وهو نفس ما فعله الجهلاء للصد عن الحق (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه).
وهو نفس ما فعلت قريش مع الطفيل حين قدم لمكة فقالوا له ضع قطنا في أذنيك كي لا تسمع محمدا فإنه ساحر. فذهب وأذنه محشوة بالقطن لكنه أفاق من جهله وسخف ما فعل ونزع القطن من أذنيه، وقال سأستمع فإن كان أمره رشدا أخذت منه وإن كان غير ذلك اجتنبته.
علينا أن ننزع القطن من آذاننا لنستمع، فما كان حقا أخذنا به وما كان غير ذلك رددناه.