لو عدنا إلى المشاريع المتعثرة وعدم وجود حلول جذرية لمشاكل متجذرة منذ عشرات السنين لوجدنا أن السبب هو نفسه، أي محاولة حل المعضلة بنفس الآلية التي أثبتت فشلها من قبل
في لقاء مفتوح جمعه مع رجال أعمال في غرفة القصيم قال محافظ الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة الدكتور غسان السليمان: (إن «التستر» مشكلة كبيرة في السعودية)، وأضاف: (نحاربه منذ 50 سنة بالآلية نفسها وفشلنا)!.
وحديثي في هذه المقالة لن يكون عن الأعمال أو الاقتصاد والتجارة، ليس فقط لأنني لا أحمل وداً ومحبة لمن يمارسون التجارة، وليس لأنني ما زلت متمسكا بوصيتي لابني الذي أُصر على أن ينفذها فور وصوله لسن الرشد، والوصية باختصار: (بُني.. قرر من البدء إما أن تكون رجلا، أو رجل أعمال)! وبما أنه من الواضح تحاملي عليهم، وكون هذه مبررا لأن أبتعد عن هذه الزاوية وأختار مكانا أكثر رحابة للقراءة يتجاوز المنشآت الصغيرة والمتوسطة، ليقترب من المنشأة الأهم والأرحب -إن جاز التعبير- وهي الوطن.
والجملة الأهم -من وجهة نظري- في حديث المحافظ وهي ما أتاحت لي التعريض برجال الأعمال هي قوله: (نحاربه -أي التستر- منذ 50 سنة بالآلية نفسها ونفشل)، ولا أعرف هل كان المحافظ يكرر نفس الآلية الفاشلة منذ 50 سنة ويعتقد أنها ستنجح؟!.
لو عدنا إلى المشاريع المتعثرة أو عدم نجاح بعض الأنظمة وعدم وجود حلول جذرية لمشاكل متجذرة منذ عشرات السنين لوجدنا أن السبب هو نفسه، أي محاولة حل المعضلة بنفس الآلية التي أثبتت فشلها من قبل، فعندما نستخدم أدوات غير مناسبة ونكتشف من التجربة الأولى أن هذه الأدوات لا يمكن أن تحل المشكلة فإن عبقريتنا البيروقراطية تتفرغ لمعالجة المشكلة الجديدة، ولتقريب الصورة يمكن أن نروي هذه القصة المُتخيّلة: عاد من عمله مرهقا مشوّشا، أدخل يده بجيب ثوبه الجانبي ليخرج (ميدالية) مثقلة بالمفاتيح (ليس من بينها مفتاح الفرج بالتأكيد)، حاول إدخال المفتاح بالباب لكنه لم يستجب للمحاولة، اكتشف أن المفتاح هو مفتاح السيارة وليس البيت.
أعلم عزيزي القارئ أنك خمنت نهاية القصّة.. لكن هذا لم يحدث، الرجل بفضل جيناته البيروقراطية اكتشف أن المشكلة بالباب والمفتاح ذاته (تناسوا مفتاح البيت الذي يتدلى في الطرف الآخر من الميدالية)، الفكرة التي لمعت بذهن الرجل قادمة من بئرِ سحيقة في وادي عبقر هي أن يعيد ترتيب (أسنان) مفتاح السيارة كي يتناسق مع باب البيت ليتمكن بعد ذلك من دخول منزله، وهذا كلفه الانتظار أمام صانع المفاتيح الذي لم يجد حلّاً للمشكلة، لكنه كتعاطف مع صاحب المفتاح أرسله لحداد يصنع الأبواب الذي بدوره لم يجد حلّاً سوى أن يطلب استشارة من خبير بصناعة الأبواب علّه يجد حلّاً لمشكلة مفتاح السيارة الذي لم يفتح الباب، دفع صاحبنا قيمة الاستشارة وانتظر أياما حتى يأتي الحل، لا يمكن أن نصف هذا الرجل بالغباء، فهو على الأقل اقتنع من المحاولة الأولى أن المفتاح لن يلج ثقب الباب، ولم يحاول للمرة الخمسين، وبالتأكيد سيصحو غدا ليكتشف أن مفتاح السيارة غير صالح لتشغيلها، وهكذا تفتّق ذهننا عن صناعة مشاكل كثيرة معقدة من مشكلة بسيطة، وأصبحنا ملزمين بحل المشكلة التي نتجت عند محاولة حل المشكلة الأساسية، وكأنك يا بو زيد ما غزيت! بإمكانك أن تصنع سيفا من ورق، سيكون اسمه سيفا بالتأكيد، لكن لن يجرح!.