ما زال تركي السديري يقف مثل شجرة صنوبر سامقة، أستمد منها الأمن كلما شعرت بالرهبة، لأنه الرجل الذي أسرج لي مداخل واسعة للحياة، وأمّن عليها بالنصيحة والتوجيه

كل إنسان يدين بالفضل بجزء ما من حياته، لأولئك الذين كانوا خلف نقاط مهمة من هذه الحياة، على صعيد شخصيته وتكوينها أيا كان شكلها، وأيا كان مخرجها.
ثمة تراكمات وتفاصيل، ربما بدت للبعض بسيطة، لكنها من حيث المآل والمحصلة تتجمع لتشكل في النهاية شخصية لها مفرداتها، دون أن يعني ذلك انفصالها الحتمي عن التأثر بالآخرين الذين أسهموا عبر صور متعددة قدمتها شخصياتهم وتصرفاتهم وأعمالهم المعبرة عن كاريزما خاصة بهم، لها طابع التفرد في تشكيل هذه الشخصية.
كل شيء في حياتنا بدءا من اتخاذ قراراتنا بما فيها الواعية وغير الواعية، وانتهاء بما نحققه من نجاحات أو ما نسميه مجازا إنجازات، تقف وراءه أسباب عدة، بعضها خفي قد لا يعلمه كثيرون حتى ممن هم حولنا، يمثلها مؤثرون لهم تجاربهم الحياتية العميقة، يحفرون من خلالها صوراً وأثراً على حياتنا التالية بكل تفاصيلها.
إنهم الملهمون المبدعون الذين يضعون علامات غير قابلة للاختفاء في تاريخ كل من يقابلهم، لتظل كعلامات بارزة خالدة، دالة على تأثيرهم العميق والإيجابي في حياة الآخرين.
في كل زاوية من حياتي يقف أحد أهم أولئك المؤثرين العمالقة، الذين شكلوا تاريخاً روحياً ومهنياً مجيداً لأجيال تلاحقت بعدهم، فتركوا بصماتهم في كل شيء يتعلق بتلك الأجيال تقريبا.
وشخصيا، أتناول اليوم أحدهم بكثير من التبجيل والإجلال، فعلى الصعيد الإنساني والأخلاقي ما زال يقف مثل شجرة صنوبر سامقة، أستمد منها الأمن كلما شعرت بالرهبة من الأشياء، لأنه الرجل الذي أسرج لي مداخل واسعة للحياة، أمّن عليها بالنصيحة والتوجيه.
وعلى صعيد العمل في الإعلام، وهو المجال الذي أحببته وعشقت سلامه ونيرانه، ظهر كجامعة لا ترضى بغير الاحترافية والنوعية، حتى وصفه الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز بـملك الصحف السعودية.. هذا الرجل لا يمكن إلا أن يكون تركي السديري، تلك القامة الإعلامية السعودية الشامخة، وصاحب التجربة العريضة التي ما زال نسغ تعاليمها يمتد في كل الأغصان والفروع والأوراق والثمار، فقد ترأس تحرير الزميلة جريدة الرياض على مدى أكثر من أربعة عقود، جالساً على كرسيها الساخن منذ عام 1394 وحتى قبول استقالته في 16 شوال 1436، مقدما خلال تلك الفترة وما قبلها وبعدها وعلى مدى نصف قرن من الزمن عصارة مهنية الإبداع الصحفي والإداري، وقصة فاخرة مكتوبة بمداد من الذهب للنبل الإنساني.
في مدرسته الثرية نشأت وترعرعت، وفيها تعلمت أول وأهم أبجديات الصحافة التي صنعتني وصبغت عالمي التالي.. هو أول من تناول خامة أديب الآغا، ومنحها الشكل واللون والمستقبل.
لم يتأخر تركي السديري يوما عن الحضور في تفكيري، فقد كان هذا الرجل سببا في إكمالي دراستي الجامعية، وكان يهددني إذا ما قصرت في تحصيل العلم، ويمنحني تشجيعا وتحفيزا مساحات كبيرة للتحضير والمذاكرة، كأنه يريد التأكيد على أهمية الثواب جنبا إلى جنب مع العتاب.
أما ما يتعلق بالعمل الصحفي فلا زلت أتذكر مقولاته وطريقته وتوجيهه لي ذات عمر، حتى بات كل ما يتعلق بأخلاقيات المهنة لا يغيب عن يومياتي، حتى باتت جزءا لا يمكن فصله عن أخلاقياتي الحياتية العامة.
وأما ما يتعلق بالإنسانية، فهي فصول لا تغيب عني فيها قصص الأصدقاء الذين تحدثوا عن مواقف الشهامة التي وقفها معهم، والتي غيرت من شخصيات كثيرين منهم ممن أعرف جيداً، فيما لم يتحدث -وهو النبيل الشهم- عنها يوما إلى أحد، فلم تكن غايته منها الاستعراض ولا المنّ، بل كانت الشهامة تمشي في ركابه كجزء من تركيبته، وكمكمل جميل لشخصيته الثرية بالعطاء.
لم يطلب مني يوما أن أتحدث عن المؤثرين في حياتي وهم كثر، ولكني حين أجد نفسي أمام ذلك، سأختار تركي السديري بكل الفخر ليكون، وهو الرجل المؤسسة، في صدارة وقمة القائمة، لأنه يستحق بكل جدارة، ولأنه لا ينكر الفضل إلا جاحد.