الاستماع يهدد دائما معارفنا المستقرة ويفتح عليها رياح التغيير. لكن ما الذي يجري حين ننخرط في الثرثرة؟

الاستماع علاقة مدهشة بالنسبة لي. أعني بذلك أنها علاقة/ظاهرة لا تكف عن إمدادي بتأملات جديدة. كذلك لا أمل في التفكير فيها بمستوى يشترك فيه الفكري بالوجداني. كما أن الأمور مرتبطة بشكل وثيق بنقائضها، فإن ظاهرة الثرثرة لا تقل إدهاشاً عن الاستماع. الجانب الأكثر إدهاشا في نمطي العلاقة: الاستماع والثرثرة هو وجود الآخر في تلك العلاقة. المتحدث بالنسبة للمستمع والمستمع بالنسبة للمتحدث، كيف يبدو الآخر في الاستماع وكيف يبدو الآخر في الثرثرة؟ بهذا الشكر تبدو لي تلك العلاقات أخلاقيا. كأي علاقة، علاقة الحديث بين شخصين تعكس أمورا كثيرة منها موازين القوى: العلاقة يمكن أن تعكس هيمنة طرف على طرف، احترام طرف لطرف، واستضافة طرف لطرف. كذلك العلاقة يمكن أن تعكس استعمال طرف لطرف: الحديث أحيانا كثيرة مريح للشخص ولكن إراحته هذه لا تتم إلا بكونه متوجها لآخر. الآخر هنا يمكن أن يحضر فقط في حدود تلبية هذه الرغبة للفضفضة. لكننا نعلم أن الثرثار ليس دائماً سيئ النوايا. نعلم كثيراً من الثرثارين طيبي القلوب. أحيانا نشعر أن الثرثرة أصبحت لا إرادية بالنسبة لهم أو لنا. الاستماع هنا شكل من أشكال الرحمة والعطف والمساعدة. ولكن التجربة الحياتية تخبرنا كذلك أن الاستماع ليس دائماً دليلاً على الرؤية الطيبة للآخر. المحقق الشرير مستمع جيد. الدكتاتور في أحيان كثيرة يستمع استماع القاضي الذي يستعد لإطلاق حكمه. الاستماع هنا ترقب وتربص. بهذا الشكل نتجنب الأحكام الأولية على الاستماع والثرثرة وندخل في تأمل مفتوح على أشكال مختلفة من العلاقات، ممكن أن تتشكل داخل إطارات الاستماع والثرثرة.
هل الثرثرة تعني كثرة الكلام فقط؟ يعني هل يمكن تعريف الثرثرة بأنها كثرة الكلام؟ أم أن هناك بعدا تقييميا لنوع الكلام الكثير لكي يمكن اعتباره ثرثرة؟ أي أن الثرثرة بالضرورة كلام غير مهم. أيضا هل الثرثرة نهاية محتومة لكثرة الكلام؟ بمعنى أن أهمية الكلام تنبع من الاهتمام الذي يلقيه الآخر له وحين يخف هذا الاهتمام، بسبب كثرة الكلام، فإن قيمة الكلام ستنخفض بالضرورة ليصبح ثرثرة؟ الثرثرة كذلك يمكن أن تفهم باعتبارها علامة على انفتاح الذات على الآخر، فالثرثار عادة ما يخبرنا بأفكاره ومشاعره وحتى أسراره. لكن في ذات الوقت يمكن النظر للثرثرة على أنها هروب من الوجود الحقيقي كما عند هايدجر.
الثرثرة هنا قريبة من التلهي عن مواجهة الأسئلة الكبيرة في حياتنا بالسوالف وبالأحاديث. الثرثرة هنا ترفيه شبيه بالوقت الذي نقضيه أمام التلفزيون أو مع وسائل التواصل الاجتماعي. إذا أحاطت بنا همومنا بحثنا عمن يخرجنا من أفقها إلى عوالم أخرى. الثرثارون يساعدوننا أحياناَ على الهرب من مواجهة ذواتنا في لحظات الصمت. الثرثرة هنا مقاومة للصمت ولضرورة اللقاء مع ما لا نحب لقاءه. الثرثرة هنا طريق آخر مقابل للطريق المؤدي للتفكير في الموت.
في كثير من الأحيان نضيق ذرعا بالثرثار ونصرخ به: هناك آخرون غيرك في الكون، لا يمكن أن تستحوذ على الوقت وتترك غيرك بدون فرصة مشاركة. هنا الثرثرة علامة حادة على الأنانية. الثرثار لا يعامل الآخرين بالمثل ولا يعتقد أنهم يريدون الحديث كما يريد. الآخر هنا يغيب من نظر الثرثار ويصبح مجرد وسيلة للاستعمال الذاتي. في المقابل يمكن رؤية الثرثرة باعتبارها اهتماما وعناية بالآخر. الثرثار لن ينسحب ولن ينغلق على ذاته. الثرثار يبادر ليتحدث إليك. صحيح أنك ستبذل جهداً مضاعفاً لمشاركته في الحديث ولكنه لا يتجاهل وجودك كذلك الصامت الذي ليس لديه الاستعداد لكسر خلوته الذاتية وتبادل الحديث مع من بجانبه.
الأفكار غير المرتبة أعلاه كان هدفها فتح آفاق التأمل في الاستماع والثرثرة. هذه المهمة تقوم على فكرتين أساسيتين: الأولى أهمية ظاهرتي الاستماع والثرثرة بالمعنى الأخلاقي. في هاتين الظاهرتين تنشأ علاقات ذات دلالات أخلاقية مهمة بين الذات والآخر، تعكس كيف تنظر الذات للآخر والعكس. الأهمية الوجودية كما في التحليل الهايدجري تنشأ من اعتبار الاستماع والثرثرة شكلين من تعاملنا مع سؤال الوجود. الفكرة الثانية هي أن ظاهرتي الاستماع والثرثرة عصية على الإجابات السريعة والقولبة المباشرة وهذا سر إدهاشها. تحت هذه العلاقات نشاهد، كما حاولت بيانه أعلاه، حضوراً مختلفاً للذات مع الآخر مما يقربنا أكثر من ضرورة التعامل مع هذه الظواهر بمنطق وصفي إثنوغرافي يعطينا فرصة لمحاولة الانفتاح عليها بدون أحكام مسبقة. الفكرة هنا تعني الانطلاق من ملاحظات دقيقة عن شعور الطرف الآخر أمام الثرثار أثناء الثرثرة. كذلك ملاحظات الثرثار نفسه عن فعله وعن مدى وعيه بحضور الآخر أمامه أثناء الثرثرة. كذلك نحتاج ملاحظات دقيقة عن مشهد الاستماع وعن دلالاته على المستمع وعلى المتحدث. واحدة من الملاحظات المهمة للفيلسوف جان لوك نانسي تقول حين نستمع فإننا دائما على حافة المعنى. يبدو لي أن الفكرة هنا أن الاستماع يعني الانفتاح على الجديد والمختلف والمفاجئ والذي يحمل معه احتمالا كبيرا بدفعنا باتجاه المنطقة الفاصلة بين المعنى وعدمه. بعبارة أخرى الاستماع يهدد دائما معارفنا المستقرة ويفتح عليها رياح التغيير. لكن ما الذي يجري حين ننخرط في الثرثرة؟ يبدو هذا السؤال صالحا لافتتاحية المقالة القادمة.