المؤشرات السياسية تؤكد أن المنطقة مقبلة على مواجهة عسكرية يحوم طيفها في الأفق، وهي مواجهة لن تكون بالتأكيد في صالح طهران

تعود إيران إلى تصدر واجهة الأخبار العالمية، من بوابة تهديد السلم والأمن الدوليين، وإصرارها – كعادتها – على مواصلة دورها السالب في تهديد الاستقرار العالمي عبر تجاربها الصاروخية المحظورة بموجب قرارات المجتمع الدولي، وتمسكها بالتدخل السالب في شؤون دول الشرق الأوسط. ومن اللافت في الأزمة الحالية التي اندلعت بين النظام الإيراني وإدارة ترمب، عدم قراءة إيران الصحيحة للتطورات السياسية التي يمر بها العالم، وإصرارها على تحدي الإدارة الأميركية الجديدة، التي يبدو أنها وضعت على رأس أجندتها التصدي لمغامرات طهران العدائية، واستخفافها بالقانون الدولي.
يبدو ضيق الأفق السياسي الذي يتحكم في عقول من يديرون دفة الأحداث في طهران، ويصنعون قرارها السياسي، في أسلوب تعاملها مع المعطيات الجديدة، فالحكمة كانت تقتضي أن يتريثوا قبل إقدامهم على إطلاق الصاروخ الباليستي، كبالون اختبار خاطئ، أطلق في وقت أكثر خطأ، وهو ما تلقفته واشنطن بسرعة، ولم تضع وقتا في استثمار تلك السانحة التي جاءتها على طبق من ذهب، لتوصل رسالتها الواضحة للنظام الإيراني، بأن وقت التهاون قد ولى، وأن المواجهة الحتمية قادمة لا محالة، وهو ما عبر عنه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، في تغريدته الشهيرة التي قال فيها إن ساسة طهران لم يقدروا كم كان أوباما متساهلا معهم، وإنه لن يقوم بنفس الدور.
خلال الحملات الانتخابية تعهَّد ترمب بتمزيق الاتفاق النووي مع إيران في اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض، ويبدو أنه كان عازماً على ذلك بالفعل، إلا أن مستشاريه نصحوه بعدم فعل ذلك، حتى لا يتحمل فاتورة إلغاء الاتفاق وما قد يترتب عليه من تبعات، وطالبوه بإرغام طهران على تنفيذ بنود الاتفاق بدقة، والتخلي عن حلم الانضمام إلى النادي النووي، أو المضي في تجاوزاتها، ومن ثم تحميلها عواقب تصرفاتها، ووضعها – منفردة - في مواجهة العالم.
تقوم أبجديات العمل السياسي على القراءة الصحيحة للواقع، ومعرفة الأوقات التي يمكن فيها تصعيد النبرة، وتلك التي تستلزم الاحتواء والسكون، وحتى الانحناء للعاصفة، لكن يبدو أن النظام الإيراني لا زال يتبع سياسته المتحجرة، وعقليته القديمة، ويصر على تحدي المجتمع الدولي، وهو ما يدل على أنه لم يقرأ الواقع السياسي الجديد، ولا يملك تصوراً لكيفية التعاطي معه، رغم أن الإدارة الجديدة طرحت تصورها لشكل العلاقة مع إيران قبل الانتخابات الأميركية. وإن كان الرئيس السابق باراك أوباما منح إيران مزايا لم يسبق أن توقعت الحصول عليها، وأتاح لها العراق لقمة سائغة، تسرح فيه ميليشياتها، وغضّ الطرف عن تجاوزاتها في اليمن، وتهريبها أسلحة الموت والدمار للانقلابيين الحوثيين، وتجاوز عن جرائم ميليشياتها في سورية، وأعاد لها عشرات المليارات من دولاراتها المجمدة، بعد توقيع الاتفاق النووي، إلا أن طهران فشلت في تقديم نفسها بصورة جديدة، تمكنها من كسب متعاطفين معها، وداعمين لها، وتوهمت أن ذلك يعني إمكانية استمرارها على نفس النهج القديم، وأضاعت بذلك فرصة ذهبية، حيث كان العالم ينتظر منها تغييراً لسلوكها العدواني، إلا أن فاقد الشيء، كما يقال، لا يعطيه.
لم تقتصر ردة الفعل الأميركي على إدانة المسلك الإيراني المنافي لقرارات المجتمع الدولي بالإصرار على المضي في برنامجها الصاروخي المثير للجدل، بل تعدى ذلك إلى ضرورة قصقصة أجنحة إيران في دول الشرق الأوسط، وباتت دوائر صنع القرار الأميركي تتحدث عن حتمية هزيمة ميليشيات إيران في المنطقة، وردع وكلائها الذين يعملون بالوكالة عنها، ووصلت رسالة الإدارة الأميركية واضحة جلية لعملاء طهران في بغداد، عندما رفضت واشنطن استقبال الرئيس العراقي أو رئيس وزرائه أو رئيس برلمانه، في تعبير واضح لانسياقهم وراء مخططات إيران، التي ما أدت إلا لضياع أرض الرافدين، وإنهاك اقتصاده، وتدمير مجتمعه، بزرع بذور الكراهية الطائفية.
وفي سورية كانت الرسالة أشمل وأبلغ، عندما ابتدر ترمب عهده الرئاسي بالإعلان عن إنشاء منطقة آمنة، تمهد لوقف العنف، وبدء حوار سياسي جاد، وأرسلت الإدارة إشارات واضحة بحتمية خروج ميليشيات حزب الله وفصائل بغداد، مؤكدة السعي للتنسيق مع روسيا حول إنهاء الأزمة الإنسانية، التي باتت تشكل تهديدا جديا للعالم أجمع. وهنا تبدو العقوبات الاقتصادية التي فرضت على كيانات تابعة للحزب المذهبي إشارة أخرى إلى أن الأخير مقبل على لحظة فارقة ستنتهي بدون شك إلى تدمير قوته ومحاصرة أصول تمويله.
أما اليمن، فقد اقترنت فيه تهديدات واشنطن للحوثيين بالفعل، حيث سارع البنتاجون إلى إرسال المدمرة كول إلى باب المندب، لحماية ممرات الملاحة الدولية، ووضع حد لمغامرات الجماعة الانقلابية، ويبرز هنا التصريح الذي أدلى به مستشار الأمن القومي، مايكل فلين، الذي قال فيه إن ميليشيات الحوثيين ليست أكثر من جماعة إرهابية تتبع لإيران، وهو تصريح يحمل دلالات عدة، في مقدمتها أن الإدارة الحالية تجاوزت إخفاقات سابقتها، التي امتنعت عن تصنيف الحركة الحوثية ضمن الجماعات الإرهابية، وهو ما يعني أن التعامل المقبل معها سيكون على هذا الأساس.
كذلك تؤكد وسائل إعلام غربية أن اليمن سيكون أولى ساحات المواجهة الوشيكة بين واشنطن وطهران، ولم ينتج هذا من فراغ، لأن التجاوزات التي ترتكبها الميليشيات الانقلابية في باب المندب مثلت تهديدا صريحا لحركة التجارة العالمية، وهو ما لا يمكن أن تتسامح معه الدول الكبرى، إضافة إلى أن عدم استقرار اليمن أتاح الفرصة لتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، الذي تصنفه واشنطن أخطر فروع التنظيم، لتقوية عناصره، وتجديد مصادر أسلحته، رغم الضربات الجوية التي ظل يتعرض لها خلال الفترة الماضية.
المؤشرات السياسية تؤكد أن المنطقة مقبلة على مواجهة عسكرية يحوم طيفها في الأفق، وهي مواجهة لن تكون بالتأكيد في صالح طهران، فإضافة إلى التفوق العسكري الواضح في موازين القوة، إلا أن الأخيرة تعاني من التردي الاقتصادي، والعزلة الإقليمية والدولية، وقبل كل هذا تلاشي السند الشعبي الداخلي، بعد أن حوّل النظام شعبه الذي كان ذات يوم من أغنى شعوب المنطقة، إلى شعب يعيش أبناؤه في القبور وأرصفة الشوارع، وقسموا المجتمع إلى قسمين لا ثالث لهما، أقلية متشددة مهووسة بخيالات من ماض ساحق، تصر على مواجهة العالم، وأغلبية مقهورة تمني نفسها بالانخراط في عالم جديد، تسوده قوانين العالم وقرارات مؤسساته الدولية.