العقلاء يعلمون أن الخطاب المتوازن لا يروق مطلقا لصقور المذاهب؛ فصقور المذاهب يملكون من سذاجة الفكرة الدينية؛ ما يجعلهم أبعد الناس عن خطاب الاعتدال

من الأسئلة التي وصلت إلى المسامع، وما زالت تتجدد بين الفينة والأخرى؛ هل يمكن الرهان اليوم على جيل جديد من طلبة العلم، في صناعة خطاب فقهي جديد؟ الجواب من الوهلة الأولى هو؛ إن الرهان ممكن، ولكن ذلك وحده لا يكفي؛ فرهان التطوير والتجديد، لا يمكن كسبه بغير العكوف على مراجعة نقدية صريحة للخطاب الديني الحالي، ومراجعة تجديدية، لكل من النسق الدلالي والاستدلالي للنظام التشريعي.
لا يمكن أن نتطور في نظرتنا الفقهية، بغير الاستمداد من المكتسبات الحديثة والمعاصرة، وهذا في ذات الوقت يوجب انفتاح علوم التشريع الإسلامي، على مختلف العلوم، كذا الانخراط في مشروع موسع، لوصل علوم الشريعة بكل شيء، وبذل الجهد في اتصال وتواصل علماء الفقه من كل المدارس والمذاهب، دونما استقطاب من أحد على حساب أحد؛ وما من شك في أن لكل صاحب مذهب الحق، في أن يشعر أن مذهبه هو الوحيد الذي على حق، وأن فرقته هي الوحيدة الناجية من النار، ولا بأس أن يتوقف الأمر عند ذلك، ولكن أن يتم إلزام الناس به، فهذا هو الذي يمكن تسميته بالعراك الطفولي.
لقد حان الوقت للخروج من فكر العصور المظلمة، وإدراك أن للدين ربا يحميه، والتخلص من التعقيدات، وترك إشغال أنفسنا بالحروب الوهمية على هويتنا، وعلى إسلامنا، وأن نمتلك الجرأة على التعامل مع الواقع، والإصرار على أن يكون الفقيه منا جادا مع مجتمعه، ومتحررا من عقد النمطية القاسية، التي تعيشها الشريحة العريضة من الناس، وأن ننطلق في خطابنا من لغةٍ هي بالفعل أقرب إلى المشتركات، منها إلى الشعارات السطحية.
العقلاء ـوصراحة هم قلةـ توصلوا إلى أنه من العبث أن يستمر الناس في التعامل مع بعضهم البعض، على أساس التصنيفات، والتصنيف المذهبي والفكري بالخصوص؛ وللأسف نحن ما زلنا نتعارك على من هو صاحب المذهب السماوي، ومن هو صاحب المذهب الأرضي، والمؤسف الأكبر أنه صار بيننا من نسمعه يقول، إن المذهب الفلاني أكثر خطرا من الصهيونية، والماسونية.
إن هؤلاء العقلاء يعلمون أن الخطاب المتوازن لا يروق مطلقا لصقور المذاهب؛ فصقور المذاهب يملكون من سذاجة الفكرة الدينية؛ ما يجعلهم أبعد الناس عن خطاب الاعتدال، لكن العقلاء يعلمون أن مستقبل الفهم الديني لجيلٍ أو أجيال لاحقة سيقدّر حتما قيمة الفكرة النيرة، والخطاب المستنير، وأن ضجيج المخالفين سيختفي ولو بعد حين، والمهم هو أن نقدم لونا مختلفا للغة الدينية؛ نمزج من خلالها قيمة (الفقه) مع القيمة الاجتماعية لحياة إنسان اليوم، مع مقاربة حقيقية بين الفكرة الدينية والأفكار الأخرى، وبما يهدف إلى إنهاء صراعاتنا المختلفة.