من تتبع سِيَرَ علماء السلف رأى من سعة الصدر، وتعظيم الحق، ورحمة الخلق، ما هو جدير بأن يحتذى
السالك لمنهج السلف الصالح، يُعظِّم الحق، ويرحم الخلق، فتعظيمُه للحق، وبيانه له، لا يحمله على الغل والظلم للمخالف، ورحمتُه للخلق لا تحمله على تسويغ الباطل ومداهنةِ أصحابه، وهذا الاعتدالُ هو منهج أئمة أهل السنة والجماعة -كما يقول ابن تيمية- فإنهم يعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة، سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تَعالَى: (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، ويرحمون الخلق، فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء، بل إذا عاقبوهم، وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق، ورحمة الخلق.
وكثير من الناس لا يستطيع أن يجمع هذين الأمرين، تعظيمَ الحق، ورحمةَ الخلق، فربما نشأ من عدم اتصافهم بالرحمة للمخالفين: الفجورُ في الخصومة، وسلاطةُ اللسان، وخروجُ الأضغان، ونشأ من عدم تعظيمهم للحق: المداهنةُ والتلونُ وكتمُ الحقِ والمكاييلُ المختلفة، ومن كان هذا حاله -إما كتم للحق، وإما ظلم للخلق - فإن من الخير له وللدعوة أن يتركها، وينصرف لعلاج نفسه، حتى يتمكَّن من الجمع بين الحسنيين: بيانِ الحق، ورحمةِ الخلق، ولهذا لما ضحك أحد الناس عند موت ابنه، بحجة أنه راضٍ بقدر الله فلا يبكي، قال العلماء إنه لم يستطع أن يجمع الأمرين الرضا بقدر الله، والرحمةَ للميت، في حين أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أكملُ وأفضلُ، فإنه جمع بين الرضا بقضاء ربه تعالى، وبين رحمة الطفل الميت، فإنه لما بكى، قال له سعد بن عبادة: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.
فمنهج السلف الصالح، منهج متكامل، علم وعمل ورحمة وأخلاق فاضلة، ومن تتبع سِيَرَ علماء السلف رأى من سعة الصدر، وتعظيم الحق، ورحمة الخلق، ما هو جدير بأن يحتذى، فهذا العالم السلفي ابن تيمية رحمه الله مع أنه ابْتُلي بخصوم كثر، وبعضهم تربص به الدوائر، وافترى عليه الكذب، نجده يقول: هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني، فإنه وإن تعدى حدود الله فيَّ بتكفيرٍ، أو تفسيقٍ، أو افتراءٍ، أو عصبيةٍ جاهلية، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أَضبط ما أقوله وأفعله، وأَزِنُه بميزان العدل، وأجعله مؤتما بالكتاب الذي أنزله الله، وجعله هدى للناس، حاكما فيما اختلفوا فيه.
وقد ابْتُلي رحمه الله بمعاصرين حسدوه، وآذوه، وأجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم، فسُجن ظلما وعدوانا، فكتب لأصحابه وهو في السجن: ...فنطوي بساطَ الكلام، كقول القائل: فلان قصَّر، فلان ما عمل، فلان أوذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية، فلان كان يتكلم في كيد فلان، ونحو هذه الكلمات التي فيها مذمة لبعض الأصحاب والإخوان. فإني لا أسامح من أذاهم من هذا الباب ولا حول ولا قوة إلا بالله.. ولا أُحب أنِ يُنتَصَر من أحد بسبب كذبه علي، أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أُحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهم في حلٍّ من جهتي، وأما ما يتعلق بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم، وإلا فحكم الله نافذ فيهم، فلو كان الرجل مشكورا على سوء عمله لكنت أشكر كل من كان سببا في هذه القضية، لما يترتب عليه من خير الدنيا والآخرة، لكن الله هو المشكور على حسن نعمه وآلائه وأياديه، التي لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له...
ولما زالت إمارة الجاشنكير وقُتل، وآلت الإمارة إلى ابن قلاوون، أراد ابن قلاوون أن يقضي على أولئك العلماء الخصوم، بسبب فتاويهم السابقة بعزله ومبايعة الجاشنكير، وأراد أن يأخذ فتوى من ابن تيمية بذلك، فقال لابن تيمية: إن هؤلاء هم الذين ظلموك وآذوك، وأهدروا دمك. فقال ابن تيمية للسلطان ابن قلاوون إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم من العلماء الأفاضل، فقال السلطان: لكنهم آذوك وأرادوا قتلك مرارا، فقال ابن تيمية: من آذاني فهو في حل، وأنا لا أنتصر لنفسي، وما زال يقنع السلطان بأن يعفو ويصفح عنهم، حتى استجاب له، وعفا عنهم. عندئذٍ قال القاضي ابن مخلوف -أشد خصوم ابن تيمية-: ما رأينا أتقى من ابن تيمية.. حرَّضنا عليه، ولم نُبْق ممكنا في السعي فيه، ولما قَدِر علينا عفا عنّا، وحاجج عنا.
ويقول تلميذه ابن القيم: جئت يوما مبشرا له -أي لابن تيمية- بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزَّاهم، وقال إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسُروا به، ودعوا له.
تلك أخلاق العالم المسلم الذي يجمع بين بيان الحق، ورحمة الخلق، ويدفع بالتي هي أحسن، وقد قال الله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)، ومهما كانت العداوة فإن الدفع بالتي هي أحسن يصيِّر العدو -فضلا عن المسلم- وليا حميما.