لا يمكن أن ننظر للمستقبل بمعزل عن التراث، سيما أننا الآن نحاول أن نفهم أشياء لم تكن موجودة في الكتب التي نقرؤها، ولا كلام رجالها وطريقة تفكيرهم يمكن أن تعلمنا كيف نتصرف
العنوان حصيلة وحي أسئلة كانت تتنزل عليّ مشاكسة مقلقة، تُلح بطريقة مستفزة أن أُجيب عن سؤال من شاكلة: أين يسير مجتمعنا؟ أفرك ذاكرتي محاولا البحث عن إجابة حتى وإن بدأت مواربة تتصنّع اليقين، لكنني أصطدم بأسئلة ساخرة، وعلامات استفهام متضخمة تحسب في جسمها ورماً، يقفز سؤال آخر كأرنب برّي: وهل مجتمعنا يسير فعلا أم أنه متوقف؟
أحاول أن أتجاوز سخرية السؤال الذي لا ينتظر إجابة، أحاول أن أغيّر بوصلة الحديث نحو الطقس، أو التنبؤ عن قرار الرئيس ترمب القادم، لكن ذاكراتي المحمّلة بالروايات من الجيل الذي سبقنا ترى أن محاولة إجابة الأسئلة أمر ممكن. فمثلا في السبعينات الميلادية كان المجتمع ينعم بأشياء أصبحت الآن مثار جدل وتنابز وشكوك في المقاصد والمآلات، كانت دور السينما مثلا في كل المدن السعودية تقريبا، وكان لا أحد يسأل عن مذهب الآخر وعقيدته، ولم تكن المرأة قضية كل من لم يجد عملا غير الحديث عنها -الذي أصبح الآن وظيفة مهمة ومركزا مرموقا- بل حتى على المستوى الإنساني لم نكن نسمع عن العقوق إلا كأساطير ذات حمولات تربوية بأسلوب رمزي فطري شفيف.. وعند هذا تتخلى الأسئلة عن سخريتها، أو على الأقل تتصنع الجدّية: إذن، ماذا حدث بعد ذلك؟
هنا التقطت أنا دور الأسئلة الساخر مستمتعا بتورطها في كآبة الجدية وأجبت: لم يحدث شيء، كل ما في الأمر أن المجتمع مر (بغيبوبة) وعندما صحا لم يجد نفسه في السبعينات، وبدلا من أن يتعايش مع ما بعدها قرر أن يستعين بالكتاب، فقرأ عن قرون خلت، ووجد فيها شيئا يشبهه، فقرر العودة إليها، ففغر سؤال أبله فاه: هل تقصد أن مجتمعنا يسير أو سار إلى الوراء؟ هنا تصنّعت الثقافة (لغة فصيحة بمخارج حروف مرتخية)، وقلت: لا يمكن في هذه الحالة حرق المراحل والقفز على صيرورة الزمن، ولا يمكن أن ننظر للمستقبل بمعزل عن التراث، سيما أننا الآن نحاول أن نفهم أشياء لم تكن موجودة في الكتب التي نقرؤها، ولا كلام رجالها وطريقة تفكيرهم يمكن أن تعلمنا كيف نتصرف، ولمّا لاحظت أنه لم يفهم ما قلت شعرت بالطمأنينة، فعلى الأقل هو يعتقد أنني فهمت شيئا مما أقول! وقفز سؤال بهيئة طفل أسمر فقد أسنانه الأمامية ليسأل: هل تقصد أننا كمن وجد آلة تقنية حديثة الصنع فذهب لمستودع جده الرابع بحثا عن (كتالوج) هذه الآلة؟ قلت: لا بني رعاك الله.. الأمر أشبه بمن وجد مقبسا للتيار الكهربائي، وبدلا من أن يستفيد من التيار قرر أن يعرف مصدره أولا، فثقب المقبس ووجد سلكا معدنيا يغيب في غياهب الجدار، فساقه تفكيره أن يبدأ بهدم بعض الجدار حتى يتتبع هذا السلك الذي ربما يكون مصدره الأعداء الذين يتربصون بنا ويحاولون أن يدخلوا بيوتنا بهذه الطريقة.. فقاطعني: أليس الأجدر أن نستغل التيار للبناء وليس الهدم؟ قلت: لا أستطيع أن أُجيبك الآن لأن مساحة المقال انتهت، فلمحته وقد مدّ رجليه على طريقة أبي حنيفة!