السينما لن تأخذ هذا المجتمع إلى القمة، وأيضا لن تأخذه إلى القاع. كل ما في الأمر أنها اليوم شأنها شأن الرياضة مثلا، مجرد لغة من لغات التواصل البشري التي تستخدمها المجتمعات للتعبير عن ثقافاتها
في هذا المجتمع، توجد فئتان تسيران في اتجاهين متعاكسين، لكنهما يسيران على الطريق نفسه، كأنهما يؤديان الوظيفة نفسها لكن بطرق مختلفة.
أتباع الفئة الأولى هم أناس لا هَمّ لهم إلا البحث عن كل ما يثير الشهوة في أبناء هذا المجتمع، ثم حشره فيما يجدونه بكل المجالات الأدبية، الثقافية، الإعلامية، الترفيهية.. إلخ، وهؤلاء يُعرفون اصطلاحا بـشياطين الإنس الذين يحبون أن تشيع الفاحشة بين الناس، وكأنهم لا يستطيعون الوجود إلا في الأماكن التي يتم فيها إشباع الشهوات البهيمية كيفما كان.
أما أتباع الفئة الثانية، فهم أناس ينظرون إلى معظم أبناء هذا المجتمع على أنهم من أتباع الفئة الأولى!.
من هنا، يتضح أن أتباع هاتين الفئتين لا وظيفة لهما إلا الطواف حول الشيء نفسه.
الفئة الأولى: يريدون أن يكون كل شيء مثيرا للشهوة، والفئة الثانية يظنون أن كل شيء فعلا يثير الشهوة، ومشكلة هؤلاء وهؤلاء أنهم لم يعوا بعد أن هذا المجتمع مجتمع طبيعي، وأن الفرد هنا له أهداف ورغبات تتخطى حدود الشهوة.
مثلا، أن يقرأ أحدهم كتابا ليزيد من مخزونه المعرفي، لا أن يبحث فيه عن عبارات غزل يلقيها على مسامع فتاة عابرة، غير أن أتباع الفئة الأولى شياطين الإنس يحبون ألا يبحث القارئ في الكتاب إلا عما يدغدغ به مشاعر أي فتاة تمر أمامه، وأتباع الفئة الثانية يظنون أن القارئ لا يقرأ إلا ليبحث عن عبارات غزل يتصيد بها أي فتاة والسلام، وقس –عزيزي القارئ- على هذا المثال كل شيء آخر.
الإشكال هنا ليس مع شياطين الإنس، فهؤلاء موجودون في كل المجتمعات، ويمكن التحذير منهم بشكل علني، كما ويمكن الإشارة إليهم بأنهم أهل سوء بكل وضوح وصراحة، وبالتالي يمكن لجمهم وتقييدهم اجتماعيا وقانونيا. الإشكال إذًا مع الذين يظنون أن كل من يخالفهم هو من شياطين الإنس بالضرورة، وأن كل أمر يستجد ويطرأ في هذا المجتمع فهو مكيدة من مكائد هؤلاء الشياطين وألاعيبهم.
ولنتأمل فقط في الجدل الدائر هذه الأيام حول موضوع السينما، لا شك أن هنالك من يريد حشر كل ما يثير الشهوة داخل المادة السينمائية، لكن الإشكال ليس هنا، إنما في اعتقاد معظم المعارضين أن مفهوم السينما لا يدور إلا حول إثارة الشهوات، بالتالي فكل أو معظم من يؤيد السينما، هو في نظرهم من شياطين الإنس الذين يحبون إشاعة الفاحشة بين الناس!.
إن الجدل الدائر هذه الأيام حول السينما في حقيقته لا يدور حول السينما ولا علاقة له بالسينما، إنما هو جدل حول الشهوة وما يثيرها، حول الصالات السينمائية المغلقة، لماذا هي مُغلقة؟، ولماذا يسودها الظلام؟، وما الذي سيحدث في هذه الظلمة؟، وما يدرينا أن الكل يتابع الفيلم المعروض فعلا ولا يوجد بينهم لاهٍ عن الفيلم بدغدغة مشاعر من بجانبه؟!، وربما يأتي الرجل بزوجته لمشاهدة الفيلم في بادئ الأمر، ثم يأتي بامرأة لا تحل له ولا يحل لها؟!، والكثير الكثير من الحجج الواهية التي تدل على مدى ضيق أفق من لا يعرف سوى الدوران داخل دائرة الشهوة، يتعامل مع كل شيء أنه يثير الشهوة ويؤججها، وأصحاب هذه العقلية لا يختلفون عن شياطين الإنس إلا في اتجاه السير.
بالأمس، خرجوا في الشوارع للتحذير من التلفاز كونه مثيرا للشهوات، وبعد فترة خرجوا على شاشات التلفاز للتحذير من الجوالات، كونها تثير الشهوة، وبعدها بفترة استخدموا الجوالات ليحذروا من الإنترنت كونه مثيرا للشهوة، ثم أنشؤوا لهم مواقع إلكترونية للتحذير من مواقع التواصل الاجتماعي كونها بابا لإثارة الشهوات البهيمية، واليوم يطلون على المجتمع من مواقع التواصل الاجتماعي للتحذير من السينما كونها مرتعا لإثارة الشهوات، وغدا ستتم صناعة فيلم سينمائي عالي التكلفة للتحذير من شيء ما نجهله، لكننا ندرك أنهم سيجدونه مثيرا للشهوة!
وهكذا، تتغير لغة الجدال في كل موضوع، لكن الشهوة وما يثيرها يظلان رقما ثابتا في كل معادلة، وهكذا في حقيقة الأمر نحن لا نتجادل حول أي شيء على الإطلاق سوى الشهوة وما يثيرها.
كأن الفرد في هذا المجتمع لا هَمّ له إلا البحث عما يثير شهوته، رغم أن الفرد هنا هو إنسان طبيعي له رغبات وأهداف تتخطى بمراحل الشهوة بكل تبعاتها. أهداف ورغبات معرفية وتثقيفية وتعليمية وترفيهية واقتصادية. أهداف دنيوية ودينية، والسينما لن تحقق له كل هذا، وأيضا لن تحرمه من كل هذا.
السينما لن تأخذ هذا المجتمع إلى القمة، وأيضا لن تأخذه إلى القاع، كل ما في الأمر أنها اليوم شأنها شأن الرياضة مثلا، مجرد لغة من لغات التواصل البشري التي تستخدمها المجتمعات للتعبير عن ثقافاتها وأفكارها المختلفة، لا علاقة بالشهوة وما يثيرها أبدا بهذا الموضوع لكن معظم المتجادلين لا يعرفون سوى الطواف حول الشهوة وما يثيرها، لهذا نخسر الوقت دائما في مناقشة قضايا تجاوزتها معظم المجتمعات.