لم تظهر النعرات المذهبية والاختلافات الطائفية إلا بعد مجيء ثورة الخميني، عندما اختار لبلاده أن تسبح عكس التيار، وأدت سياساته إلى أن تصبح إيران دولة مارقة
اهتمام كبير أولته وسائل الإعلام العربية والمحلية لوفاة الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني، فتبارت في تحليل تداعيات ذلك مستقبلا، وحاولت قراءة ما يمكن أن يمثله رحيله على المشهد السياسي في إيران، وبينما رأت بعضها أن وفاة رفسنجاني تضعف النظام، باعتباره أحد الأعمدة التي قامت عليها ثورة الخميني، مالت أخرى إلى وصفه بـالمعتدل الذي يشد أزر من يسمونهم بـالإصلاحيين، مستدلة على ما ذهبت إليه بمواقفه الداعمة للرئيس الحالي حسن روحاني.
لم تخل كل تلك التحليلات السياسية من خلل في الأسس التي استندت عليها، فبدءا من الذي قال إن رفسنجاني من المعتدلين؟ أليس هو الذي أسهم بنصيب كبير في تولي المرشد الحالي علي خامنئي لمهام منصبه؟ هل نسينا دوره في القمع الدموي الذي شهدته طهران إبان الثورة الخضراء التي دهست فيها سيارات الجيش الإيراني ودباباته المتظاهرين في شوارع طهران؟ وماذا فعل لتخفيف قبضة النظام البوليسي الديكتاتوري؟ هل سمعنا له تصريحا يرفض فيه تدخلات بلاده السالبة في شؤون دولنا العربية؟ هل كان له موقف من المجازر التي ما زالت ميليشيات الحرس الثوري تديرها في سورية والعراق واليمن؟ ما إسهاماته في وقف التصعيد المذهبي البغيض الذي تمارسه إيران في المنطقة لإعادتها إلى عهد القرون الوسطى؟ حتى حسن روحاني نفسه الذي يتشدق بالاعتدال ويزعم السعي وراء الإصلاح، ما سجله في مجال حقوق الإنسان؟ وبماذا برر ضلوعه في العديد من حوادث اقتحام السفارات الأجنبية التي وقعت في بلاده؟
الحقيقة البديهية تؤكد أن العلة ليست في رفسنجاني وروحاني وخامنئي، الخلل الأساسي يكمن في الفكرة التي بني عليها النظام الإيراني منذ ثورة الخميني أواخر سبعينات القرن الماضي، وهي فكرة تقوم على ما اصطلح على تسميته بـتصدير الثورة إلى دول الجوار، بهدف السيطرة عليها فكريا، وإضعافها سياسيا واجتماعيا، قبل الهيمنة عليها بقوة السلاح. هذه ببساطة هي الدعامة الأساسية التي قامت عليها إيران ما بعد عهد الشاه، ولم يتورع الخميني نفسه عن الجهر بها والحديث عنها بوضوح يصل حد الوقاحة.
لذلك فإن توقع المزيد من الديكتاتورية أو الانفتاح في سياسة هذا النظام الديكتاتوري، سواء بقي هذا أو ذاك، هي بالضبط مثل توقع تفجر الماء في وسط الصحراء، لذلك كانت المعارضة الإيرانية واضحة وهي تؤكد أن الحل الوحيد للتخلص من هذا النظام يكمن فقط في تفكيكه، حتى وإن تظاهر عرابوه بتغيير السياسات أو النزوع نحو السلام، فهي كلها ليست سوى تكتيكات مرحلية، وتبادل للأدوار، بهدف الانحناء للعواصف ومن ثم السير في نفس الخط الذي رسم في مرحلة بدايات التكوين.
اللافت للنظر هو التضارب الكبير في تصريحات رموز النظام وحكامه، ففي الأسبوع الماضي دعا الرئيس الإيراني المملكة إلى تغيير سياساتها، ووقف التدخل في شؤون سورية والبحرين واليمن، حسب زعمه، كمدخل لتحسين العلاقات بين البلدين، وفي اليوم التالي بادر وزير خارجيته إلى الدعوة لتطوير التعاون بين إيران والسعودية، وأن لا مصلحة لإحداهما في معاداة الأخرى، وهي تصريحات متناقضة تكشف ما يمر به النظام من تخبط وتناقض. والسؤال البديهي الذي يفترض على روحاني الإجابة عنه هو أن المملكة ترتبط بعلاقات التاريخ، والدم، واللغة، والدين الواحد، والمصير المشترك مع الدول الثلاث التي حددها، فماذا يربط بينها وبين إيران؟ ومن الذي ينبغي أن يكف عن التدخل في شؤونها، ومن الذي وقف بجوار هذه الدول، وواسى أبناءها، وداوى جراحهم، وأطعم جائعهم وأمدهم بمقومات الحياة، وفي المقابل من الذي تسبب في معاناتهم، وأشعل الحرب في بلادهم ورفدهم بأساليب الموت والدمار؟
حسنا فعل وزير الخارجية عادل الجبير الذي أكد في كلمته أمام مؤتمر دافوس، الأسبوع الماضي، أنه لا سبيل لتحسين العلاقات مع النظام الإيراني، إلا في حال قيامه بتغيير سياساته، ووقف تأجيج النزاعات والأزمات في الدول العربية، مؤكدا أن طهران هي سبب الخلافات ومنبع الإرهاب في العالم. ومثل هذه الرسائل الواضحة القوية هي الكفيلة وحدها بإرغام النظام الإيراني على وقف أنشطته السالبة، والعودة إلى حظيرة المجتمع الدولي.
الحقيقة الماثلة للعيان تؤكد أن إيران هي الدولة الوحيدة في العالم التي بنيت على أسس مذهبية وطائفية، تقوم على فكرة خاطئة أساسها محاولة فرض تلك الأفكار على الجميع، بمختلف الوسائل، تؤجج الفتن وتزعزع الاستقرار في الدول التي تستهدفها، دون مراعاة لأن تلك قناعات شخصية، يتولى فيها الإنسان اختيار ما يعتقده ويناسبه ويؤمن به، دون وصاية أو قسر، وأن لا تأثير لتلك القناعات على كونه مواطنا صالحا، ما دام يلتزم بالقانون، ويتقيد بالضوابط المرعية، ويؤدي ما عليه للدولة التي يعيش في كنفها.
على هذا المبدأ الواضح نشأت المجتمعات الخليجية والعربية، وتعايش الناس في وئام تام، ما كان مواطنوها يرون بأسا في أن يكون هذا شيعيا أو ذاك سنيا، صوفيا أو سلفيا، حتى المسيحيون تعايشوا مع المسلمين في كثير من الدول بدون صعوبات، ولم تظهر النعرات المذهبية والاختلافات الطائفية إلا بعد مجيء ثورة الخميني، عندما اختار الأخير لبلاده أن تسبح عكس التيار، وأدت سياساته إلى أن تصبح دولة مارقة. لذلك فإنه ما من سبيل إلى اندماجها في المجتمع الدولي إلا في اعترافها بذلك، وإعلانها الواضح بتغيير تلك السياسات، والتقيد بقوانين النظام العالمي، والتعامل معها على هذا الأساس يوفر كثيرا من الوقت والجهد، وأي محاولة لتصور إمكانية تغيير النظام سياساته بدون تلك الخطوة الأساسية هو ضرب من الأحلام والتصورات غير الواقعية، قضي الأمر الذي فيه تستفتون.