في معرض الحديث عن الآخر في الضيافة مرت عرضا فكرة استضافة الذات. لم تمر هذه الفكرة بدون ملاحظة واعتراض من عدد من الحضور. كيف تستضيف الذات ذاتها؟ كان هذا السؤال الأساسي. الصديق شايع الوقيان ذكر ارتباط الضيافة بالمكان ومنح مكان الذات للآخر وهذا ما يتعذر على الذات مع ذاتها. كل هذه اعتراضات حقيقية بالتأكيد، ولا أتوقع لهذه الفكرة أن تحظى بقبول واسع على كل حال. في هذه المقالة سأعمل على رفع احتمالات قبول هذه الفكرة من خلال التوضيح التالي: فكرة استضافة الذات فكرة مركبة من فكرتين أساسيتين: أولا: الذات كآخر، والثانية الذات كضيف. سأعمل أولا على محاولة تأسيس فكرة الذات كآخر ومن ثم استضافة هذه الذات.
من أجل الهدف الأول، تأسيس فكرة الذات كآخر، نحتاج لإدخال مشهد الهوية الذاتية في بعده الزماني. الهوية الذاتية كما ناقش الصديق شايع الوقيان في حلقة الرياض الفلسفية ممتدة على فترات زمنية مختلفة. فحين أتحدث عن ذاتي فأنا أتحدث عنها في الماضي والحاضر والمستقبل. حين أقول أنا فأنا أحيل على تاريخ متواصل انطلق من الولادة وينتهي مع الوفاة. هذا التاريخ يشمل أنا في الماضي، أنا الآن، وأنا في المستقبل. لا أعتقد أننا يمكن أن ندعي أن الذات في هذه الحالات الثلاث متطابقة. كلنا نعلم التغيير الذي يحدث في شخصياتنا مع مرور الوقت. التغيير هذا يشمل التغيير البيولوجي الذي يصيب جسد الإنسان وخلاياه التي تتجدد باستمرار، كما يصيب أفكاره ومشاعره. هذا التغيير قد يكون حادا لدرجة أدت إلى القول بصعوبة الحديث عن امتداد واحد إلا على مستوى الذاكرة كما عند جون لوك. هذا الاختلاف بين مراحل الذات يمكن أن يكون فاتحة لنا لتصور التعامل مع الذات كآخر. في هذا التصور الزمني تصبح العلاقة التي تربط الذات بذاتها علاقة قائمة على الاختلاف، كما هي قائمة على التطابق. هنا يمكن القول إن الذات كآخر يمكن أن تحضر كذواتنا في الماضي وذواتنا في المستقبل. الذاكرة أو التذكر واحدة من طرقنا للارتباط مع ذواتنا في الماضي. الخيال والاستشراف واحدة من طرق علاقتنا مع ذواتنا في المستقبل. شخصيا أعتقد بإمكان تأسيس تصور للذات كآخر في الحاضر كذلك، لكني سأترك هذه المهمة لمقالة أخرى. المهم هنا هو إدخال مفهوم الاختلاف عبر الحقب الزمنية في علاقة الذات بذاتها. الذات هنا تبدو آخر كذلك كما هي في الماضي وكما هي في المستقبل.
إذا كان الطرح أعلاه موفقا في إيضاح تصور الذات كآخر فإننا ننتقل هنا لإمكان استضافة ذواتنا كآخر. في البداية لابد من الاستعداد للتعامل مع الضيافة في جوهرها لا في شكل محدد من أشكالها. الضيافة في جوهرها ترحيب بالآخر كآخر ورعاية لتلك الغيرية الأصيلة فيه. الضيافة الكلاسيكية ارتبطت فعلا بمنح المكان في البيت للآخر ولكننا يمكن فهم هذا المنح المكاني بمعنى أوسع ليشمل المنح الوجودي والنفسي، منح مكان في الذات لوجود الآخر كآخر، ومنح مشاعر الترحيب بذلك الآخر. هنا نتذكر فعلا أن هذا الجانب هو الجانب الأساسي، فضيافة بلا رحابة نفسية لا تكتمل أركانها، خصوصا مع انخفاض الحاجة المادية للضيافة. المضيف الذي لا يمنح لضيفه مكانا في ذاته ضيافته ناقصة بالتأكيد. كل تعابير الوجه واللسان مهمة جدا في مشهد الضيافة. نأتي هنا لاستضافة الذات كآخر باعتبارها ماضيا لم ينته. ذواتنا تحمل تاريخا لا يزال يؤثر فينا. إلى درجة ما كنا أشخاصا آخرين. ما موقفنا من هؤلاء الآخرين؟ هل نتقبلهم كما هم أم نرفضهم أم نتجاهلهم. خيار الضيافة يعني أن نتقبل ذواتنا في الماضي مهما كانت. أن نتصالح معها على أعمق مستوى ممكن. هذه الاستضافة لا تعني قبول كل ما عملت الذات في الماضي، بل يعني استعادة أسس العلاقة الأولية مع تلك الذات. العلاقة الأخلاقية التي تذكرنا بوجودنا من أجل هذا الآخر بغض النظر عن ماهيته. العنف الاجتماعي الذي تقاومه الضيافة يتحقق هنا كذلك، فالعنف يحدث بين الفرد وماضيه، كذلك ليحيل الذات إلى ساحة معركة.
الذات في المستقبل موضع استضافة كذلك. الإنسان يتغير مع الوقت. هواياته تتجدد، نظرته للعالم والحياة تختلف مع الوقت، الذات هنا تلوح لنا كآخر وأحيانا بشكل راديكالي كما في التغيرات الجسدية والجنسية الحادة. ما موقفنا من هذه الذات التي تقبل علينا من بعيد بغيريتها التي تربك استقرارنا كما يربك الضيف المنزل ويعيد تشكيله؟ هذه الذات الجديدة المقبلة يمكن إغلاق الباب دونها ورفض استضافتها لنقول: لن أتغيّر، سأرفض الأفكار الجديدة، لن أتحول لموسيقي بعد عمر طويل من العمل في التعليم، سأبقى كما أنا. أو يمكن أن تفتح الذات بابها لذاتها الجديدة لتستضيفها وتحمي وجودها وحضورها. مشهد الاستضافة سيكون مشهدا مذهلا بالتأكيد. دعوانا هنا تشمل مشهدا يحتوى الذات بذاتها الجديدة. كيف سيكون هذا اللقاء؟ أعتقد أن هذا السؤال يفترض أن يحيلنا إلى تجارب الأفراد الذين شهدوا تحولات كبيرة في شخصياتهم لتصور هذا المشهد. هذا اللقاء يحمل في داخله احتمالاته اندماج الذات الأولى في الجديدة أو رحيل الذات الجديدة بعد فترة من الإقامة. الحالة الثانية تصف كثيرا من الرغبات الجديدة التي يمكن أن نعطيها فرصتها للوجود ثم لا نلبث أن نكتشف أن تلك الذات الجديد قد رحلت. الأطفال نموذج واضح لهذه الاستضافة. كل من تحدث مع الأطفال يعلم انفتاحهم على شخصيات وأدوار جديدة في الحياة. اليوم طيار وغدا مهندس وبعده فنان.. إلخ. هذه الشخصيات عادة من تقيم مع الطفل لأيام ثم ترحل ليحل محلها ضيف آخر. ما يفعله الطفل هنا يمكن أن يكون مثالا على ما أعنيه باستضافة الذات كآخر.