قبل التفكير في إنشاء صالات للسينما ومواكبة العالم الذي يجلس مشدوها وساخرا من جدلنا العقيم حول الترفيه، علينا أن نتعلم أن الترفيه حق طبيعي للإنسان أن يختار طريقته وماهيته

انشغل الكثير في الفترة الأخيرة بالحديث عن احتياج الشعب السعودي إلى وسائل ترفيه حديثة ومبتكـرة أو أخرى كانت موجودة مسبقا ثم خفتت وتلاشت، كالحفلات الغنائية ودور السينما، وهي الأمور التي كانت من ضمن توقعات الجمهور المنتظر لتحركات وإنجازات هيئة الترفيه التي أعـلن عنها ضـمن رؤية 2030، وازداد الجدل بعد تصريح مفتي عام المملكة، بعد سؤال تلقاه عبر برنامج خاص للفتوى في إحدى القنوات الخاصة من متصل،  وكان تصريح المفتي بأن الحفلات الغنائية والسينما فساد للأخلاق ومدمرة للقيم ومدعاة لاختلاط الجنسين، وأن السينما تعرض أفلاما ماجنة وخليعة وفاسدة وإلحادية.
سبق حديث المفتي هذا تفاعل في شبكات التواصل الاجتماعي للكثير من الشباب الغيور، يناهض فكرة افتتاح صالات للسينما في البلاد، أو إقامة حفلات غنائية، والمبهج في كثير من هؤلاء الشباب الحريصين والخائفين أيضا على مجتمعهم من الفساد أنهم نشطون في داخل البلاد وخارجها، في الداخل يقضون ساعات الليل الأولى في التسكع بالمولات التجارية، وساعاته الأخيرة في الشوارع وعلى الأرصفة، يحفهم الصخب والأغاني الهابطة وكثير من الشيلات، يمارسون هوايات بريئة، كالتفحيط ومعاكسة الفتيات، وغيرها مما يخجل ذكره. ومن يمارس نشاطه خارج البلاد منهم فهو يطلع على مستجدات السينما هناك – مع أمور كثيرة أخرى ينشط فيها - ويهتم بمتابعة ما تقدمه الدول التي تنتج أفلامها لمحاربة قيمنا وفضائلنا، وباطلاعه هذا يعود محملا لوطنه بحصيلة لا بأس بها من مستجدات الساحات الفنية التي تنعكس عليه نقدا واعيا، وحرصا أكثر يخشى معه على مجتمعه من ترفيه كان يركض خلفه خارج حدوده، وهو في نقده سيكون أكثر تأثيرا وصدقا، فليس من رأى وسمع مثل الذي لم ير ولم يسمع!
من قال إننا نريد افتتاح صالات سينما في بلادنا؟ فضلا عن حاجتنا لإقامة حفلات غنائية أو متاحف أو مسارح ومعارض فنية دائمة أو أي مما يندرج تحت مسمى ترفيه الذي أنشئت له هيئة كاملة منذ أشهر لم أسمع – شخصيا -  بنشاط لها إلا تلك الزيارة التي قام بها رئيسها أحمد الخطيب للمفتي يوم الأحد الماضي. نحن ولله الحمد لدينا شبكات إنترنت عالية السرعة والجودة نستطيع معها متابعة الفن السابع دون الحاجة للاختلاط، وما يفضي له من مفاسد، لا نطلّع عبر أجهزتنا فقط على عالم هوليوود وبوليوود، بل نقدر عبرها أن ندخل إلى الغرف الحمراء والصفراء المفتوحة على مصراعيها للكبار والصغار، دون رقيب أو عمل مؤسسي موجه، كالذي تقوم به صناعة السينما الحديثة، سنرفّه عن أنفسنا بأنفسنا، إما بما اعتدنا عليه من سفر إلى دول الجوار أو دول الكفار، وهناك نشاهد ما نشاهد، ونحضر ما نحضر، وننفق أموالنا دون تردد، ثم نعود خفافا من عبء النقد والتعقب والارتياب. أو أن نعوّد أنفسنا وأبناءنا على الانزواء خلف الشاشات في الغرف المغلقة لمتابعة الهش والجيد، والغث والسمين. أما الحفلات الغنائية التي يقيمها المطربون السعوديون خارج حدود وطنهم ويحضرها أبناء وطنهم، فسنعتبر الأموال التي تصرف فيها وعليها بمثابة بدل عن الانتظار من موسم إلى موسم لإعلان حفلة جديدة تقام في إطار طبيعي وإنساني. حتى تلك الأمور الأصغر التي يطمح لها بعض مناشدي الترفيه في وطننا، كالأندية والأنشطة الرياضية، ليست إلا نوعا من كفر الترف الذي تنوء به أجساد الرجال والنساء، وينعكس على صحتهم بعلل جسدية ونفسية واجتماعية.
... وبعد كل هذا الهزل الجاد؛ قبل التفكير في إنشاء صالات للسينما ومواكبة العالم الذي يجلس مشدوها وساخرا من جدلنا العـقيم حول الترفيه، علينا أن نتعلم أن الترفيه حق طبيعي للإنسان أن يختار طريقته وماهيته، وأن اختيارات الفرد منا، مهما كانت، ينبغي أن تُقابل بالاحترام لحقه في الاختيار. أن يتعلم المجتمع أن يكفّ عن الوصاية على الآخر، وتقرير مصائره عنه، والتدخل في شؤونه وافتراض أن ما يقوم به الصواب والحق وما دونه خطأ. علينا أن نعيد تعريف وفهم الكثير من المصطلحات التي نتداولها ونصدر بناء على فهمنا القاصر والمحدود لها الأحكام القطعية المغلفة بالدين، فما تعريف الفضيلة والرذيلة والفساد والاختلاط والخصوصية والقيم؟ ومن يملك الحق في حصرها في إطاره الفكري وتصديرها للمجتمع برمته؟ بل من عليه أن يقرر مصير مجتمع كامل بجوانبه الاجتماعية والثقافية والاقتصادية؟
نحتاج إلى تحول فكري متزامن مع التحول الوطني، كيف سيتم هذا؟ لا أدري، ربما نحتاج معه إلى رؤية خاصة، وخارطة طريق صارمة.