الحرية تمرين لا يكل ولا يمل، وهنيئاً لأصحاب اللياقة العالية فتراهم أحراراً في عقولهم وقلوبهم، تلمح ذلك في حياتهم وطريقة حديثهم التلقائية المريحة الخالية من تشنجات وعنجهيات العقد النفسية
(الناس يولدون أحراراً)، عند التأمل في هذه العبارة نكتشف أنها عبارة ديماغوجية تصلح للجماهير، ولكنها ليست عبارة دقيقة تستطيع تفسير التناقضات الاجتماعية في معنى الحرية، فالناس يولدون بغرائز للحياة كأي نوع من الثديات، فيلتقم الطفل الثدي كمصدر للغذاء دون تعليم، ولا يدرك نفسه كذات إلا في مراحل متقدمة من طفولته مع أولى تأملاته في المرآة، بخلاف كثير من الثديات التي تنظر لنفسها في المرآة كأن صورتها شخص آخر.
الحرية تمرين وليست حالة، فبتعقيدات الحضارة الإنسانية يجب أن نتجاوز المفاهيم القديمة لمعنى الحرية الذي يرتكز على معنى طبقي لم يعد موجودا في حضارتنا الإنسانية، فالحر حسب المعنى القديم هو عكس العبد، وهذا في معيار الحضارة الإنسانية الحديثة معنى بدائي بائد، بشكله الظاهر، ولكنه موجود بمعناه، لتصبح الحرية مفهوما يحتاج للتدريب والتمرين الذهني، كي لا يصبح الإنسان عبداً بشكل ما وهو لا يشعر، ولهذا كانت عبارة (العالم الحر) - وإن كانت من بقايا الحرب الباردة - التي يوصف بها العالم الأول عبارة موجعة وصادمة لنا كوصف تصنيفي جعلنا ضمن (العالم الثالث).
الحرية تمرين وليست حالة ثابتة، فالشعوب التي تتهاون في رفع مستوى لياقتها للحرية تصاب بتصلب الشرايين والسكتة الدماغية، وقد تضطر لحرب أهلية تساعدها للوصول إلى المعنى الحديث لرفع مستوى لياقتها لتكون مؤهلة لمعنى الحرية، ورغم ذلك قد تنجح ولا تنجح.
الحرية تمرين يعيشه المسافر إلى (العالم الحر) ليكتشف أن حريته أثمن ما يعيشه طيلة بقائه في هذا العالم الجديد الذي لم يألفه، فإذا عاد إلى بلده مكث بضعة أشهر لا يستطيع التكيف مع قيود مجتمعه غير المبررة في نظره، فقد عاش في (العالم الحر) متزناً ومتماسكاً على جميع المستويات الدينية والاجتماعية والسياسية، ولم يحتج إلى قيود مجتمعه المفروضة باسم الدين والقبيلة والسياسة، فما الذي حصل له بعد بضعة أشهر من العودة إلى وطنه؟ لقد عاد له الترهل في معنى الحرية كي يعيش وسط مجتمعه متناغماً مع المترهلين ذهنياً في معنى الحرية، وإلا سيعاني التهمة بمرض (فرط الحركة) بين مجتمع مترهل يكره تمرين الحرية الذي يضطره لأشياء كثيرة جعلت إريك فروم يكتب كتابه بعنوان (الهروب من الحرية).
الحرية مفهوم يعزز الفردانية لدى الفرد لينمو مغذيا الحضارة بإبداعه لتزدهر الحضارة وتغذيه أيضاً باحترام فردانيته، وينقص بنقصانها فيخفت الإبداع وتموت الحضارة، ومن لا يفهمونها هم من يكرر على أسماعنا (نريد الحرية لكن بشروط وقيود)، متناسين أن الحرية مفهوم معقد يحتاج إلى عقل بشري يصل إليها ويرتقي لفهمها، ولهذا لا يمكن أن توصف البهائم بأنها حرة، ومن يصف البهيمة بأنها حرة، فهو يعتقد أن الحرية حياة الغريزة الحيوانية التي تحتاج إلى قيود ورسن من الشروط، بينما الحرية كمفهوم عقلي هي التي تعطي الإنسان امتياز صيد السبع تحت مسمى (هواية) أو (دفاع عن النفس) أو (حماية من الانقراض) أو (تدريب لعروض السيرك) أو (اقتناء شخصي للصيد)، وحرمت السبع من صيد البشر بهذا المسمى فغريزته مجرد (توحش)، فالحرية اتساع في الدلالات والمقاصد تعجز عنه الحيوانات.
الحرية مفهوم ارتقت إليه الشعوب التي لا ترى في العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم معجزة إلهية أو منحة ربانية، يسوغها الفقهاء بولاية المتغلب بالقوة والقهر، بل ترى المسألة يحلها المجتمع ليختار من يمثله بانتخابات، لتصبح ورقة الانتخاب في يد الناخب بدلاً عن طلقة الرصاص، دون الحاجة إلى قطرة دم واحدة تسفك على مذبح الاستبداد.
الحرية تمرين وبغير هذا التمرين نرى جماهير المنتخب الإنجليزي أكثر عجرفة من أي مجتمع بدائي، فالحرية نمط حضاري نحافظ عليه بالقانون الذي يرفع سوية المجتمعات، لكنه قانون يؤسسه الأحرار في سبيل الحرية والكرامة للفرد من تغول المجتمع، ويختلف عن قوانين يؤسسها العبيد على رؤوس بعضهم جماعات وأفرادا، في سبيل كرسي المستبد الخالد، فلا ترى في صراخهم سوى (نفديك بالروح والدم يا زعيم).
الحرية تمرين ولا نولد بها، ويمكن أن نخسرها في أي لحظة من حياتنا، ويمكن أن نستعيدها في لحظة أخرى بمجرد العودة لكامل لياقتنا في الترافع عن حريتنا، فالحرية دفاع عن إمكانيتنا في أن نقول (لا) و (نعم) في شأننا الخاص الذي لا يعني أحدا سوانا، دون أن يدس رجل الدين أو رجل القبيلة أو رجل السياسة أنفه في حياتنا الخاصة ما دامت لا تلحق الضرر بالآخرين، وأن نقول (لا) و(نعم) في شأننا العام الذي نتشاركه مع الآخرين وفق عقد اجتماعي مبني على المصالح الإنسانية المشتركة.
الحرية تمرين نبتكره في الترافع عن ذاتنا ومعنانا الوجودي، وليست حالة نرتكبها كتفريغ هستيري لقيود اجتماعية صنعها استبداد السياسي وتزمت رجل الدين وتسلط رجل القبيلة وعجزنا عن الفكاك منها بحكمة وعقل، ولهذا عجز بعض السود الأميركان بعد تخلصهم من سيطرة السيد أن يعيشوا أسوياء رغم تدينهم، فاتجه بعضهم للمخدرات والجريمة، مما يؤكد أن الحرية تمرين وتدريب وليست مجرد حالة غريزية عمياء يعيشها الإنسان كأي نوع من أنواع الثديات.
الحرية تمرين عقلي يجعل الحياة متعة في كل تفاصيلها، ليصبح الانضباط طريقة حياة، والالتزام بالقانون طريقة حياة، وما عدا ذلك فضميرك ودينك الذي لا يعني أحد سواك، فالحرية لا تعرف معنى للدين بالإكراه، لأن الحرية هي الملاك الحارس للمعاني الحقيقية في حياتنا، فالحب الحقيقي لا يكون بلا حرية، فالمال يشتري الزوجة لكنه لا يشتري الحب، فشرط الحب الحرية في أن نقول (نعم) بنفس مقدار (لا) وما عدا ذلك فبيع وشراء باسم (الزواج)، وغيرها من أمثلة تصرخ في العقلاء داخل مجتمعاتهم بأن يحرصوا على لياقتهم في تمرين الحرية، لأن كثرة المترهلين حولهم تجعلهم يصدقون تهمة (فرط الحركة) التي يلقيها عليهم من حولهم المصابون بتصلب شرايين عقولهم وقلوبهم، إذ لا يملون من حشو عقولهم وقلوبهم من موائد تضج بكوليسترول رجل القبيلة ورجل الدين ورجل السياسة. الحرية تمرين لا يكل ولا يمل، وهنيئاً لأصحاب اللياقة العالية فتراهم أحراراً في عقولهم وقلوبهم، تلمح ذلك في حياتهم وطريقة حديثهم التلقائية المريحة الخالية من تشنجات وعنجهيات العقد النفسية التي يصنعها تسلط رجل القبيلة أو تزمت رجل الدين أو استبداد رجل السياسة، ومن عجز عن معنى الحرية فليبحث عنه في الثراء المادي، فالثراء المادي يستر فقر الروح للمعاني السامية وعلى رأسها الحرية، وما أكثر المستورين بالمال دون مساءلة، وما أقل الأحرار الذين تلتقيهم يهرولون في سبيل الحرية ومن أجلها، وأنت تحاول الجري معهم على رصيف الحياة، هل تواصل الهرولة محافظاً على لياقتك كحر أم تتوقف؟! وتنضم لقافلة المترهلين على جنبات الرصيف، يغرونك بحياتهم وسياراتهم الفارهة ومسبحة ظاهرة باليد اليمنى وسيجارة كوبية مخفية باليد الشمال.