منذ الحرب العالمية الثانية، يعرف عن اليهود اهتمامهم بالدراسات الإعلامية - الجماهيرية، حيث يبرزون في هذا المجال كباحثين أمثال والتر بينجامين، ايليهو كاتز، وماكس هورخيمير، وغيرهم. لكنني لم أتوقع استمرارية هذا النوع من البحث التجريبي لاستقراء ردود أفعال الجماهير على محتويات إعلامية بعينها، حتى تصفحت الصحف الإسرائيلية المعاصرة. وإذا أخذنا حادثة مقتل السفير الروسي في تركيا على سبيل المثال، فإن صحيفة القدس بوست نشرت تقريرا تشرح فيه رأي الجمهور العربي في ذلك المشهد، وتتساءل القدس بوست: هل ينظر العرب لاغتيال سفير روسيا كبادرة لحرب عالمية ثالثة؟
المثير هنا هو أن هذا التقرير تناول آراء عدة جهات عربية، بدءا بالإعلام البعثي التابع لبشار الأسد في سورية، مروراً بمواقع التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى قناة الجزيرة القطرية والرأي الخليجي تحديداً. ويبدو في التقرير استنكار الإعلام السوري للحادثة وتأييد بعض الناشطين في تويتر للتصرف، كما يتضح أن بعض الجماهير العربية سيما الخليجية، ادّعوا بأن هذه الحادثة مجرد بادئة لما هو أكثر خطورةً وجرماً، والملاحظ أن رأي الصحيفة ذاتها لم يكن ضمن هذه التحليلات الاثنوقرافية، إلا أن العرب بجميع مذاهبهم وأطيافهم وتوجهاتهم السياسية، كانوا تحت المجهر لحظة إطلاق الرصاصة على السفير.
هذه ليست القضية الأولى التي يتم فيها تمحيص ردود أفعال العرب على أحداث إقليمية، فبعد الحرائق التي تعرضت لها إسرائيل قبل في نوفمبر من العام الماضي، نشرت نفس الصحيفة الإسرائيلية، مقالا تحلل فيه تغريدات الشيخ مشاري العفاسي التي كتب فيها كل التوفيق للحرائق إسرائيل تحترق، وتغريدة نبيل العوضي، التي كتب فيها شيئا مقارباً، وتضيف الصحيفة تعليقا جانبياً امتلأت حسابات العرب على مواقع التواصل بزغاريد الفرح بعد الحريق الذي تعرضنا له.
إن ما تمارسه هذه الصحيفة الإسرائيلية، هو تجربة مكتملة المعايير لها خبير، وعيّنات، وسبل ارتباط مباشر بالواقع. ومن المتعارف عليه أن هذه التجارب تشكل جزءاً من دراسات التلقيّ، أو الاثنوقرافيا، أو التأثير الإعلامي. يذكر أن المكان والتوقيت والظروف الاجتماعية وغيرها، من الأسباب التي تسهم بشكل مستمر في تشكيل ردود أفعال الجماهير على الأحداث، مما يجعل نتائج هذه الدراسات الاثنوقرافية تختلف عن سابقتها في كل مرة. وبالتالي، فإن متابعتك الدورية لعقليات وأفكار الجماهير، تمنحك فرصة أكبر لصناعة محتوى يحقق رغبتك كناشر، ويكون مقنعاً لهم. لقد بدأ الأوروبيون باعتبار هذا النوع من التجارب مجالاً علمياً يعتد به ويُرجع إليه من قِبل السياسيين والقادة ورجال الأعمال منذ الستينات الميلادية، حينما أنشأ ريتشارد هوغارت مركز الدراسات الثقافية المعاصرة في جامعة برمنجهام في بريطانيا. وصدّق أو لا تصدّق، فقد اجتمع المختصون والمهتمون، وكان اليهود يشكلون نسبة لا يستهان بها بينهم، لدراسة ردود أفعال الناس على الأفلام والمسلسلات، بالإضافة إلى الأخبار والأحداث المصيرية الكبيرة. 60 عاما مضت على الاعتراف الرسمي الغربي بدراسات التأثير الإعلامي، ومازال العرب ينظرون إلى هذه المجالات بعين النقص، ربما نحن أيضاً نحتاج علوماً كهذه في الوقت الذي تكثر فيه تقسيمات الشرق الأوسط، وتكثر الطرق التي ينظر إليها كل شق لقضية معينة، لتتعقد حينها مسألة التنبؤ بردود أفعالهم.