ليس من قبيل المصادفة تعاطي ثلاثة كتاب في صحيفة واحدة، وفي يوم واحد موضوعا واحدا، ومن زاوية واحدة تقريبا، حيث كتب الأحد المنصرم في صحيفة عكاظ المتألق هاني الظاهري عن أهمية تدريس مادة للأخلاق، مستقلة بغاياتها واستراتيجياتها عن أية مادة أخرى، في حين كتب الرائد عبده خال: إن كثيرا من القيم الأخلاقية لا تزال غائبة في تصرفاتنا وسلوكياتنا، ونحن نريد -على حد قوله- أن ندخل الجنة بالكلام! وفي المنحى نفسه يربط الأستاذ علي الرباعي بين تحقق حضارات الكون، وبين انتصار الإنسان على وحشيته وتمسكه بأخلاقياته وقيمه العظيمة.
بالتأكيد، فإن ذلك الدعم اللوجستي الثقافي لقضية الأخلاق، يكشف عن خطورة ما، استشعرها هؤلاء الداعمون، وهم يشاهدون مجتمعهم يقبع في أتون التطرف والعنصرية والمظهرية الزائفة، ويهتم بالعباد على حساب المعاملات، ويحتفي بالأقوال والطقوس الفردية، أكثر مما يحتفل بالأفعال الجمعية المنتجة المثمرة!
وليس من قبيل المصادفة -كذلك- أن تشد انتباهي تلك النداءات الأخلاقية، فلطالما هجست بموضوع الأخلاق أو القيم كثيرا، لدرجة أن أشد ما أصف به إنسانا أراه يمارس سلوكايات خاطئة ضدي أو ضد المجتمع كله، أن أقول: إنه إنسان بلا أخلاق!
كما أجدني أكره تلون الطباع البشرية بطريقة الحرباء، وهي تنسلخ من هويتها مع كل انعكاس لوني على الأرض، مما يجذبني بالضرورة إلى فضاءات القيم والأخلاق، لأن أهم ما يحددها ويتحكم في إنتاجها: ثباتها في كل حين، واستقرار غاياتها بتغير الظروف والأحوال، وإلا ليس ثمة قيمة لأخلاقيات تختلف باختلاف البيئات والمواقف.
ولعلي أذكر مقالا قبل ما يقارب سبع سنوات، بعنوان حتى لا نكون مجتمعا بلا قيم! وأنا أرى تراجع القيم الفاضلة مع مرور الزمن في بيئاتنا المحلية بتزايد ظواهر تجاوز الأنظمة والقوانين، وعدم احترام الكبار والعلماء، والغش والزيف والفساد، وتفكك الروابط الإنسانية وكثرة المنازعات والعنف الأسري والاجتماعي.. وو..!
بالتأكيد، فأنت لا تعرف مستوى ما لديك غالبا إلا إذا رأيت وعرفت ما لدى الآخرين، ولذلك فإن كثيرا من الألم والحسرة يصيبنا عندما نسافر إلى أقرب الدول منا وأبعدها، فنجد احترام الأنظمة والقوانين، ومن قبلها احترام الآخر المقارب والمختلف معا، كما نجد الهمة النبيلة في مساعدة المحتاجين، والقيام بالأعمال التطوعية من كل شكل ولون، والاعتماد على النفس وإمكاناتها فقط للحصول على منفعة عملية مجردة من المحسوبيات والواسطات..إضافة إلى تلاشي مظاهر التزييف والغش والخداع، والاحتفاء بالعنصريات أو الطبقيات. وفي هذه الأثناء، فإني أجد بحسب دلائل كثيرة أن الفضائل تتناسب طرديا مع الوعي المعرفي والمخزون الثقافي للجماعات، فالإنسان إذا أنار العلم عقله ووجدانه، أينعت سجاياه الإنسانية وازدهرت فضائله الأخلاقية.
ولذلك فإن معظم من ينتمون لجماعات التطرف والعنف، وأكثر من يخلون بالأنظمة، ويتعدون على حقوق الآخرين -مثلا- هم من الذين لم يتوافروا على قدر مقنع من المعرفة، أو هم الذين يفتقدونها بالكلية!
مجتمع الحضارة هو دائما مجتمع النبل والاحترام والتسامح والنزاهة والصدق، في حين أن البيئات المتخلفة هي أكثر البيئات إنتاجا للأشرار المجردين من القيم الفاضلة.
وقد أشارت مرجعياتنا الدينية -قرآنا وسنة- إلى ذلك الارتباط بين التقوى بمنتجها الأخلاقي والعلم والمعرفة، فالذين لا يحترمون مقام النبوة لا يعقلون في قول الله عز وجل: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، وفي السياق النبوي نجد أن الذي يمتلك معرفة حقيقية بالله وعظمته: يمنع فاه من الكلام وبطنه من الحرام، في احتفاء إسلامي بنزاهة اللسان واليد ونقائهما والقيم الأخلاقية الناتجة عنهما. وقد كان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول: الجهل أصل كل شر. والأمثلة من مصادر التشريع الإسلامي كثيرة، تضيق المساحة قطعا عن ذكر بعضها على الأقل.
وبالتالي، فالسبيل الأنجع لطلب القيم والفضائل الأخلاقية، هو اكتساب المعرفة والعلم الصحيح. تأتي الأخلاق الفاضلة في سياق العلوم والمعارف، وليس كما زعم الأستاذ الظاهري في سياق مادة دراسية تسمى باسمها!
اشتغلوا بصدق وشجاعة على تثقيف مجتمعنا، ثم انتظروا القيم الأخلاقية الفاضلة التي نريد وتريدون!