حربنا مع الإرهاب حرب فكرية يجب أن تسخر لها كل الإمكانات التي تساند العمليات الأمنية التي تأتي كحل أخير

في نهاية العام الميلادي المنصرم أعلنت الحكومة التونسية تأكيدها رفض عودة المقاتلين الإرهابيين الذي تورطوا في السفر إلى مناطق الصراع كسورية والعراق وليبيا، والمشاركة في صفوف المقاتلين، وأنها لا تسعى إلى عودتهم ولا تنوي عقد أي اتفاق مع أي جهات أو منظمات عالمية لإعادتهم إلى تونس. كما شهدت العاصمة تونس يوم الأحد الماضي مظاهرة لأكثر من ألف مواطن تونسي تندد بعودة المقاتلين من تلك البلاد، وترفع الشعارات المناهضة لعودتهم إلى تونس، وتعبر بغضب عن فكرة التوبة التي طرحها رئيس حزب النهضة الغنوشي، مطالبين بأن يتم استبعادهم من البلاد أو إسقاط الجنسية عنهم أو محاكمتهم بموجب قوانين الإرهاب. وكان هذا الرفض والتنديد لعودة المقاتلين من بؤر الصراع بسبب تنبؤات بعودة أعداد كبيرة منهم لبلادهم مع تزايد التوتر في هذه الفترة، سواء من التونسيين أو غيرهم من المقاتلين الحاملين لجنسيات أخرى.
حسب التقارير الأممية الموثوقة فإن عدد المقاتلين في سورية والعراق وليبيا يتوزع بين عدد من دول العالم، منهم قرابة 5000 مقاتل من تونس، و2500 من السعودية وبين 2000 إلى 2400 مقاتل من كل من دول البلقان والأردن وتركيا. وهؤلاء المقاتلون الإرهابيون كما أفاد المتحدث الأمني للحكومة التونسية تمرّسوا وتدربوا تدريبا عسكريا محترفا، واستعملوا كل أنواع الأسلحة الحربية المتطورة، وتعودوا على سفك الدماء والقتل، وتبنوا عقيدة جهادية، وقد تشكل عودتهم خطرا على البلاد، خاصة مع وجود خلايا نائمة تتبنى ذات الأفكار والعقيدة الجهادية والتكفيرية، وهذا ينطبق أيضا على المقاتلين من الجنسيات الأخرى.
في العملية الأمنية الناجحة التي قامت بها قوات الأمن السعودية السبت الماضي في حي الياسمين بالعاصمة الرياض أسقطت شجاعة حماة الوطن اثنين من أخطر المطلوبين للجهات الأمنية والمنتمين للتنظيم الإرهابي داعش. وبالنظر لسيرة الهالك الأول طلال الصاعدي فإنه حسب المتحدث الأمني، قد سبق له دخول السجن بسبب تبنيه الأفكار التكفيرية والجهادية، ومشاركته في دول الصراع وأُفرج عنه عام 1433 واستقبل عند خروجه من السجن بحفاوة، كما ظهر في أحد التسجيلات المصورة، ليتم القبض عليه مجددا وهو متنكر بزي نسائي في محاولة منه التسلل إلى سورية عبر الأردن ثم أخضع بعدها للمراقبة بسوار إلكتروني تخلص منه مؤخرا وأصبح في عداد المطلوبين الأمنيين. طلال الصاعدي هو شقيق الهالك فهد الصاعدي الذي عثر على جثته في إحدى الشقق التي أعدت كمصنع للمتفجرات شمال شرق الرياض عام 2003 وهو العائد من أفغانستان والمنتمي لتنظيم القاعدة الإرهابي، والذي كان العثور على جثته في ذلك الانفجار بداية العمليات الأمنية للبحث عن الإرهابيين وخلاياهم النائمة حينها.
أما الإرهابي الآخر فهو أحد المبتعثين السابقين الذين انساقوا للفكر التكفيري الجهادي، والذي كان خبيرا في صنع المتفجرات التي استخدمت في عمليات إرهابية، منها العملية الانتحارية في المسجد النبوي الشريف العام الماضي. وكان طايع الصيعري قد تنقل بين عدة دول في سبيل تحقيق عقيدته الدموية، فقد غادر نيوزيلندا إلى سورية ومنها إلى تركيا فالسودان، حيث التقى عددا من الإرهابيين، ثم اليمن التي تسلل منها إلى السعودية لتنفيذ العمليات الإرهابية التي تقودها داعش.
وسواء خضع هذان الهالكان لأي برامج للمناصحة أم لا والتي قال عنها المتحدث الرسمي لوزارة الداخلية اللواء منصور التركي في أثناء بيان وزارة الداخلية الأخير، إن هناك 15% من الخاضعين للبرنامج لا تجدي معهم المناصحة، أو استخدمت وزارة الداخلية وضع السوار الإلكتروني لتعقبهم، كما فعلت مع طلال الصاعدي في بادرة لحسن النية للتقارب مع هذا الطرف وإعداده للمجتمع الخارجي، كما علق اللواء التركي وأكد على تقديم الداخلية مبادرات كثيرة في سبيل احتواء التطرف، فإن الفكر الإرهابي القائم في معتقده على التكفير والقتل والإقصاء لا تجدي معه النوايا الحسنة، ولا التعاطف أو المبادرات التي تحتضنه لتعيده للحق والسلام، فيستغلها بخبث ليتمدد وينتشر بشراسة أكثر من قبل.
المجتمع السعودي كما ذكر اللواء التركي في المؤتمر الصحفي الذي عقد السبت الماضي، عقب عملية حي الياسمين، أصبح أكثر وعيا ورفضا للإرهاب، وقد صدرت فتوى من هيئة كبار العلماء تجيز الإبلاغ عن الإرهابيين، أصدرتها في مايو 2004، وهم الآن من يبادرون للإبلاغ عن أي مشتبه به أو مطلوب لوزارة الداخلية، لكن هناك حقيقة لا ينبغي أن نغفل عنها، وهي أنه لا تزال هناك بعض الفئات التي تتعاطف مع بعض الأفكار الداعشية وتتفق مع بعض المكفرين والإقصائيين المتطرفين، وأن نعترف بأن حربنا مع الإرهاب حرب فكرية، يجب أن تسخر لها كل الإمكانات التي تساند العمليات الأمنية التي تأتي كحل أخير، وأن نتساءل مثلا عن طلال الذي كان طفلا حينما قتل شقيقه في مصنع المتفجرات: كيف استمر يتلقى ويؤمن بذات الأفكار الإرهابية حتى أصبح من أخطر المطلوبين؟ وعن طايع الذي انحرف بمسار تعليمه والفرص التي منحت له ليوجهها في سبيل القتال ضد وطنه؟ محاربة الإرهاب لا تتفق مع النوايا الحسنة ولا ينبغي انتظار الوعي ليتشكل وحده بعد عدة تجارب قد يكون ضحيتها خسارة أرواح بريئة.
في خضم الصراع السياسي العسكري الذي تدور رحاه الآن في سورية والعراق، والحصار الذي يشهده مقاتلو داعش هناك؛ فإن الفرار من مواطن الصراع خيار متاح لأولئك الإرهابيين، وقد يعود البعض منهم لأوطانهم بطرق مشروعة أو غير مشروعة، ولا بد أن للجهات المعنية في وزارة الداخلية خططها للتعامل مع مثل هؤلاء العائدين، ولكن ماذا عن المجتمع السعودي؟ هل سيستقبلهم استقبال الأبطال المجاهدين وهو الذي أشبع بقصص الكرامات والحوريات؟ أم أنه سيلفظهم ويحاول اجتثاث وجودهم، كما يحاول أن يفعل غالبية التونسيين الآن مع العائدين من الإرهابيين لبلادهم.