التطرف الذي نعاني من ويلاته هذه الأيام قبل أن يكون ظاهرة هو جملة من الأفكار التي تعبث في فراغنا دون أن نشعر! إنه جملة من أفكار لها جذور متغلغلة في ساحتنا الثقافية
لا أخفي إعجابي بالقاضي الأستاذ العلامة الأديب أحمد أمين، جاء في مقدمة كتاب حياتي أنه ما أوكل إليه عمل من الأعمال إلا ميز نفسه فيه، فقد انتدب عام 1945 مديراً للإدارة الثقافية بوزارة المعارف، ولاحظ خطأين، الأول: قصر الوزارة جهدها على التعليم داخل جدران المدارس، مع أن في عنقها (كما جاء في الكتاب) تثقيف الشعب بأكمله في المدارس وغير المدارس، والثاني: فهمها أن نشر الثقافة لا يكون إلا بواسطة تعليم القراءة والكتابة، مع أنه يمكن أن ننشر الثقافة بواسطة السمع، وعرض الأشرطة السينمائية (منذ عام 1945!!) على الناس ونحو ذلك... درس مع زملاء له هذا الحال، وخرج باقتراح إنشاء جامعة شعبية محددة الأهداف، يقبل فيها الطلبة والطالبات من غير تقيد بسن، ولا رغبة في شهادة ولا امتحان عند القبول، ويلحقون على حسب ميولهم في شعبها الدراسية المتنوعة، من مهنية وفنية ونظرية. لا أريد الخوض في تفاصيل أكثر، لكن شهد المشروع نجاحاً باهراً، تضاعفت ميزانيته أضعافاً كثيرة، وتطورت هذه الجامعة الشعبية إلى مؤسسة الثقافة الشعبية، ثم تطورت إلى ما يعرف بقصور الثقافة المنتشرة في عواصم الأقاليم المصرية، وبعض مراكزها. وقد ظل رحمه الله رئيساً لمجلس إدارتها طوال حياته.
أعلم أن في بلادنا جهوداً جبارة لأساتذة وعلماء مخلصين لنشر العلم والثقافة بين الناس على مدى عصور طويلة، وقرأت مؤخراً بإكبار وإعجاب تقريراً عن الأنشطة الثقافية التي يقوم بها مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، ومررت بتعريف للسياسة الثقافية في بحث لمحمود عبدالله ضُمِّن في كتاب بين السلفية وإرهاب التكفير: أفكار في التفسير، نقلاً عن مرجع أجنبي بأنها الإجراءات التي بمقتضاها تقوم المؤسسات الحكومية وغير الحكومية بتنظيم الثقافة وإدارتها، بما يوفر جسور التواصل بين الفنون وحياة الناس. بحيث يمكن للحكومات والجامعات والحركات الاجتماعية والمؤسسات والشركات تقديم الدعم المالي لضبط حركة الثقافة والترويج لها وتعزيزها وتعليمها للناس وتقييمها، معتمدة في ذلك على أسباب ودوافع قانونية أو سياسية، أو لغرس قيمة المواطنة، أو من باب فعل الخير.
أسئلة كثيرة تجول بذهن الواحد منا وهو يقرأ مثل هذه التعريفات، الفنون! أين الفنون! ألم تجرم وتحرم؟ أين فن المسرح الذي يعتبره البعض مؤشراً لثقافة ووعي مجتمع ما؟ المسرح الاجتماعي، والمسرح السياسي، والمسرح الفكاهي، وإذا وجد الفن فهل هو الترفيه فقط ولا شيء غيره؟ ألا يوجد معنى للفن غير الترفيه؟ وحتى الترفيه فقد تم العبث به فأصبح عند البعض ابتذالاً وإسفافاً ولعباً على أمور عرقية أو جنسية، كما فهم للأسف بعض شبابنا وهو يتطاولون في مهارة الكوميديا الارتجالية! ولا يفهمن أحد أني ضد الترفيه البريء الذي هو انعكاس لمدى فهم الحياة، وأنها فرصة لمزيد من نشر البهجة والفرح بين الناس، اقرأوا إن شئتم كتاب الفَكَهُ في الإسلام الذي تقول فيه مؤلفته ليلى العبيدي عن الفكه: بأنه لم يحظ في الثقافة العربية الإسلامية قديماً بمنزلة رفيعة، وهو جانب مسكوت عنه الآن فيما يقال ويكتب حول الإسلام، فبدا الإسلام وجهاً قاتماً وديناً عنيفاً، وصورة للكبت، وموطناً للإرهاب، ثم تقول صراحة بعد دراسة شرعية تأصيلية لجملة وافرة من الآيات والأحاديث: لقد بدا لنا الرسول –صلى الله عليه وسلم- في هذه الرحلة مع الفَكَهِ شخصية فريدة من نوعها. كان يدعو إلى حياة بسيطة قوامها الإخاء وحسن العشرة وصلة الرحم والعدل والمساواة والسعادة التي لا تكون إلا إذا استقبل المؤمن الحياة الدنيا بالفرح والضحك والمزح، واستقبل الحياة الأخرى بمثل هذه الأمور. هل سيأتي يوم مثلاً ونرى مساجدنا قد تحولت قصوراً للثقافة؟ هل الحديث مع الناس في المساجد عن صحة الأطفال في المنازل أو ثقيفهم عن خطورة استخدام المضادات الحيوية بدون وصفة طبية، أو تدريبهم على مهارات في الكمبيوتر أو الخياطة أو الطبخ أمور سيئة مثلاً؟ وماذا نفعل بالحبشة الذين كانوا يلعبون في المسجد، مسجد رسول الله-صلى الله عليه وسلم (والحديث في الصحيحين)؟ أم نسأل السؤال الذي سأله الصادق النيهوم قديماً: من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟
ذكر لي طالب في كلية علمية أن المشرف على إحدى مقررات الثقافة الإسلامية اختبرهم شفوياً وسألهم عمن هم المعتزلة؟ وكيف ترد عليهم؟ ومن شدة حرص الطالب وخوفه من أن يخطئ غاب عن حصص علمية عملية في كليته!! هل من الممكن أن نتدخل لنجعل هذه المقررات معينة لصبغ الحياة بصبغة شرعية علمية إيمانية واقعية؟ أم أنه حتى مثل هذا السؤال يعد حرباً على الدين والعقيدة؟؟ ألا يجب أن تكون لدينا سياسة ثقافية واضحة منفتحة نعلي فيها شأن العلم والأدب والفن الراقي؟ لم لا نتبنى سياسة ثقافية تحارب الخرافة الطاغية على أنماط التفكير العربية حسب جل الدراسات والأبحاث؟ هل لا زالت الفلسفة والمنطق وتدريسهما من أعداء الدين والالتزام؟ لم لا نتبنى منهجاً ثقافياً؟ (أين إعلامنا من كل هذا؟) ينشر حب العلم، وحب القراءة والإطلاع، وأقصد بحب العلم صراحة العلم الطبيعي من ظواهر طبيعية وفيزيائية وفلكية، وأمور طبية فسيولوجية، وهذه الأرض وما فيها من إبداع وفي الأرض آيات للموقنين- وفي أنفسكم أفلا تبصرون (الذاريات)، أم أن هذه دعوة غربية عزيزي القارئ لتبادر باتهامي بالعلمانية؟ وماذا ستفعل إذاً بحديث القرآن عن السماء والنجوم والسحب والأمطار والجبال والأنعام، وكيف ستفهم الدعوة الصريحة إلى السير في الأرض؟ هل نغض الطرف عنها ونحن نصوغ مناهجنا ونرسم سياستنا الثقافية؟ لنصبح بحق أولو الألباب؟ إن التطرف الذي نعاني من ويلاته هذه الأيام قبل أن يكون ظاهرة هو جملة من الأفكار التي تعبث في فراغنا دون أن نشعر! إنه جملة من أفكار لها جذور متغلغلة في ساحتنا الثقافية أظن أن الوقت قد حان لفضحها لنمضي جميعاً لأفق ثقافي جديد تماماً!
أطلق الاتحاد السوفيتي قمراً صناعياً عام 1957، ولم يهنأ الأميركان بهذا، وصاغوا تقرير الأمة في خطر عام 1983، الذي دعا صراحة إلى لزومية إصلاح التعليم. ألسنا نحن أمة في خطر؟!