الضيافة تنقل الغريب ليس فقط إلى حالة المحمي الحاصل على السكن والطعام، بل إلى حالة الحدث المبهج المحتفى به

في ورقتي التي طرحتها قبل عدة أسابيع، جادلت في أنه لا يمكن تعريف الآخر إلا على حساب آخريته. هذا يعني أن أي محاولة لتعريف الضيف ستجعل منه جزءا من معرفة الذات، وبالتالي سيتوقف عن الحضور كآخر. التعريف يجعل الآخر مفهوما ضمن الفضاء المعرفي الذاتي، وبالتالي فإنه يصبح جزءا من معرفة الذات، ويتوقف عن كونه غريبا وجديدا ومختلفا ومفاجئا: التعبيرات السابقة هي مرادفات الآخر. الضيافة تحتوي على آليات وتقاليد عريقة للحفاظ على آخرية الذات. الشرط الأول للضيافة أنها الانفتاح على من لا نعرف. الباب المفتوح علامة على هذا الانفتاح، فمن خلاله يعلن المضيف أنه قد تخلى عن أي سلطة للتحكم في من تتم استضافته. لذا عند أهل الضيافة تبدأ الضيافة بإقبال الضيف لا باستقبال المضيف. كذلك في الضيافة تقاليد عريقة تحد من أي محاولة للتعرف على الضيف، لذا ليس من الضيافة سؤال الضيف عن اسمه أو مكان قدومه أو ظروف قدومه إلا إذا بادر هو بذلك. أي محاولة للتعرف من هذا النوع تعتبر خرقا لتقاليد الضيافة.
الصديق شايع الوقيان قدم تعليقا شفهيا في المحاضرة ثم أعقبه بتعليق مكتوب عنونه بـمفهوم الضيافة عند عبدالله المطيري، نشره في صفحته على الفيسبوك. قدم الوقيان ملاحظات متعددة سأحصر نقاشي هنا في قضية فهم الضيف. يجادل الوقيان بأن الورقة التي قدمتها تحمل مفارقة هي في صلب الضيافة. المفارقة كالتالي كما صاغها الوقيان:
1- الضيف (الآخر) لا يمكن تعريفه دون اختزاله ورده للأنا وتصوراتها. لذا يجب أن يبقى الضيف مجهولا.
2- الضيافة نوع من تحويل الغريب إلى قريب.. واللامألوف إلى مألوف.
الفقرة الثانية تحتاج توضيح. نقل الوقيان عني أني ذكرت أن الضيافة محاولة لجعل الغريب مفهوما إشارة إلى أن المجتمعات القديمة كانت لا تحتمل دخول الغريب دون وضعه في سياق اجتماعي يحدد طبيعة وجوده: الخيار إما عدو أو ضيف. الإشكال هنا بيني وبين الوقيان يكمن في التالي: العبارة في رقم 2 تعبر عن تأويل الوقيان أكثر من طرح ورقتي. تعبيري مختلف كثيرا، على الأقل بالنسبة لي. تعبيري كان كالتالي: في المجتمعات التقليدية كان تواجد الغريب في المجتمع حدثا لا يمكن تجاهله. هذا الغريب يجب أن يمنح حالة تجعل تواجده في المجتمع مفهوما وغير مقلق أو يتم استبعاده من المكان. الضيافة هي الحالة المثلى التي يتحصل عليها القادم الغريب. الضيافة هنا تعني حصوله على كم هائل من الحقوق وعلى مكانة اجتماعية مذهلة. الضيافة تنقل الغريب ليس فقط إلى حالة المحمي الحاصل على السكن والطعام، بل إلى حالة الحدث المبهج المحتفى به. الفرق بين الصياغتين يتمثل في التالي: في صياغة الوقيان الضيافة تعني فهم أو محاولة فهم الضيف، بينما في صياغتي الضيافة تعني جعل وجود الضيف مفهوما. الفرق هنا له دلالة جوهرية، فتصنيف الآخر على أنه ضيف وليس عدوا لا يعني فهمه شخصيا ولا حتى يدفع باتجاه محاولة فهمه، إذا أخذنا بالاعتبار تقاليد الضيافة أعلاه. هذا التصنيف يقوم بالعكس وهو عملية حماية آخرية هذا الضيف وتوفير هذا الخيار له أن يدخل كآخر ويخرج من المجتمع آخر، أن يدخل مجهولا ويخرج مجهولا.
لكن الوقيان يقدم تفريقا مهما بين التعريف والتعرّف. يقول الوقيان: الآخر يمكن أن يُعرَف (يفهم) ولكن لا يمكن أن يعرّف determened /define. فالتعريف عموما هو وضع للظاهرة أو الشيء في قوالب صورية ومقولات كلية. والتعريف يتعامل مع الفردي بوصفه مجرد مثال أو مصداق أو عنصر في فئة. هكذا فأنا عندما أعرّف الآخر بوصفه (سعوديا عربيا مسلما رجلا غنيا فقيرا…)، فإني أدرجه في فئات كلية لا يحضر فيها بشحمه ولحمه، بل بما يشترك فيه مع غيره.. فتضيع آخرية الآخر وتبقى منه فقط الجوانب الصورية العامة.
لكن.. التعريف كما يلمح هايدجر يكون مسبوقا بتعرّف؛ فهم pre-understanding.. التعرّف هو مواجهة مباشرة مع الشيء أو مع الآخر بدون فرض مقولات كلية عليه. صحيح أني أحمل توقعات مسبقة ( فالآخر قد يكون كيت وكيت)، لكن في التعرف (لا التعريف) فإن التوقعات تظل مجرد توقعات تحتاج إلى ملء fulfilment.. والملء يكون بالانفتاح المباشر على الآخر.. فالآخر هنا يقدم نفسه posits her-/himself.. والتوقعات التي لدي تثبت أو تتغير بناء على ما يتبدى لي فعليا.
التفريق هنا بين حالتين من التعاطي مع الآخر. الحالة الثانية التي يراهن عليها الوقيان: حالة التعرّف تنطلق من حالة انفتاح على الموضوع أو على هدف القصد والاهتمام. هذا الانفتاح يسعى لفتح المجال للآخر للظهور كما هو، بدلا من فرض مقولات الذات المسبقة عليه. ما أريد أن أقوله هنا هو إن كلتا الحالتين تتحركان فيما يسميه ليفيناز بالفضاء الإبيستمولوجي للتعاطي مع الآخر. هذا الفضاء مشغول بالآخر كموضوع للفهم والفكر. الآخر هنا مفكرا به. الفضاء الإبيستمولوجي بطبيعته يسعى للتعاطي مع الآخر معرفة أو كموضوع للمعرفة.
الفضاء الأخلاقي في المقابل لا يتواصل مع الآخر في الفضاء المعرفي، بل في فضاء سابق عليه وهو الفضاء المؤسس للفضاء المعرفي. فضاء شبيه بالتواصل الأولي الجسدي العاطفي بين الإنسان الطفل ومن حوله. الطفل تبدأ علاقته بأمه قبل أن يفهمها. الضيافة شبيهة بذلك، الانفتاح على الضيف ليس من أجل إتاحة المجال له أن يظهر بذاته لوعينا كما هو: هذا أقرب لعمل العالِم المنفتح، الضيافة ترحيب بالآخر مع الحفاظ على حقه في ألا يظهر، في أن يبقى مختفيا وهو معنا، ألا يتحدث وألا يبادر وألا يحاورنا. لذا فالضيافة تصفها ميتافيزيقا الغياب أكثر من ميتافيزيقا الحضور.