أخشى أننا نضيع لغتنا بالتساهل مع الخطاب المفخخ بما لا يليق، وعلى الأقل لنحفظ للغة الحوار أدبها ونجابه البذيء ولا نسمح له بسلطة على كلامنا، فهو جاهل ومتعمد لأذى الآخرين حين يشتم غيره

إن كانت (جدة غير) عبارة للشاعر طلال حمزة وظفت وشاعت في الاستخدام إلا أنها لم تفارق المعنى الذي انطلقت منه، فربما نسي الناس نسبتها لشاعرها، لكن بقيت دلالتها العميقة، وهذا جمال الشعر، ومنها يقول الشاعر طلال: (بس جدة يا خي غير... جدة يا خي ذكريات ماضي وحاضر وآتٍ... يكفي جدة أنها شمس المدائن... وأنها أحلى البنات).
اليوم، نميل للغة بيضاء ونميل للسخرية المرة ممن يحمل المفردة القديمة التي تلقفها وتعلمها في إطار خارج المدينة، وقد تعجبنا الكشكشة (استخدام الشين بدل الكاف في خطاب الأنثى) فنكشكش لكن من باب التملح أو التأثر بنص شعري أو غنائي. وهذا الميل للحب حينا والسخرية أحيانا يقود لقضيتي اليوم، وهي المفردات الدخيلة، ولا أعني التي تدخل من مفردات أجنبية، فهذه لا جدال فيها؛ بل هي مفردات نقلت عن معناها الأصلي وانقطعت عنه وآلت لمعنى آخر عام، تأثرا بنطق طفل أو طفلة في مقطع أو انفعال بحدث كروي أو تأثرا بمعلق على مباراة، في زمن تحولت فيه اللغة لمعاناة الأسطوانة المشروخة التي تكرر بلا ملل، فلا تثري الإنسان ولا تحيي تراثه الجميل، وكثيرا ما سمعنا عبارات تخوفنا من ضياع العربية وتفرقها كما حدث لغيرها، لكن هذا لم يحدث للعربية ولا أظنه سيحدث وأعزوه بظني لمرجعية القرآن، وأيضا نلاحظ أن بعض اللغات تتقلص في وقت تبتلع العربية التي انطلقت من الجزيرة لغات أخرى وتتحول للغة محكية ومكتوبة مع الفتح العربي الإسلامي لأجزاء من إفريقيا مثلا، بل حتى السواحلية والأوردو تشكلان العربية من مفرداتهما الكثير، وإن كانت رحلات التجارة التي حملت العربية معها قد سبقت الفتوحات؛ فتغريبة بني هلال وغيرهم من القبائل جعلت للغة وجودا مع أهلها فتكامل عقد الاستمرار وحفظت اللغة وامتدت؛ حفظت من الضياع، لكن هذا لم يعنِ أبدا أن الإنسان الذي لا يلقي عناية للغته إنسان محفوظ من ضياعه الشخصي عنها، وهذا ما حدث مع غلبة الأمية على الأوطان العربية بعد سقوط بغداد وزوال الحضارة وبخاصة جزيرتنا العربية!
ترافقت النهضة في العصر الحديث والاطلاع على الغرب بعد حملة نابليون بصحوة للغيرة على اللغة؛ فكانت مبعثا لبعث الدراسات والاهتمام بها، وحقق الإبداع الأصيل من رواد المرحلة من استطاع الجمع بين عمق ثقافي عربي واطلاع ووعي بثقافة الغرب دراسة وقراءة، ونجحت في صنع تيارين متصارعين يكتبان بلغة سليمة ويدافعان عن اللغة ووجودها، ويضيفان لها لأن النشر كان محكوما بقوانين الجودة.
أزعم أن اللغة تأثرت بسيطرة الضعف الإملائي عند المتجرئين على الكتابة، وتأثرت بأننا حولنا التعبير للرموز، ومن تعاملي السابق في التعليم أذكر تغليبا للغة الإشارة في حديث بعض الطالبات بشكل لافت، كنت أظنه بسبب تنوع البيئة الثقافية في المدرسة وتجاور الجنسيات العربية مع غيرها.
أثرت آداب اللغة وقصصها وصحفها وملاحقها في صنع جيل مهذب يعتذر إن تسبب في سوء فهم الآخر، وشتان بين لغته المتشبثة بعمق ولغة تفر من عامية أو فصحى أو صحوة لتصبح رصاصة (في منتصف الجبهة) أو (تلقم المخالف حجرا) أو تصفه بأوصاف حيوانية كـ(البغال والمطايا) -وقد اخترت أرق الألفاظ الدارجة عمدا- ويكون الكاتب أو الشاتم مبتهجا لأنه أفصح وأبان! وهذه طامة أعظم من الاستخدام! فتبا لصحوة مفردة لم تأخذ من التراث إلا الشتائم!
أخشى أننا نضيع لغتنا بالتساهل مع الخطاب المفخخ بما لا يليق، وعلى الأقل لنحفظ للغة الحوار أدبها ونجابه البذيء ولا نسمح له بسلطة على كلامنا، فهو جاهل ومتعمد لأذى الآخرين حين يشتم غيره.