الوعظ الديني في كثير من تجلياته المعاصرة، دلالة على غياب الضمير الأخلاقي، والسؤال عن إشكالياته هذه لا يخصّ المؤسسة الرسمية وحدها، بل يتعداها إلى صمت الفقهاء ذوي الاختصاص
المعرفة المنظَّمة للأحكام الدينية، وكيفية استنباطها من أدلتها، ووجوه تطبيقها... وما إلى ذلك، هو مدار علم الفقه في تاريخ الثقافة الإسلامية.
أما إنتاج شعور بالأحكام والنصوص الدينية، وصياغة خيال عامة الناس، والتأثير في تصوراتهم بها، فهي صناعة الوعظ الديني الذي يشمله قديما مصطلحا المذكِّرين والقُصَّاص ونحوهما، وحديثا مصطلح الدعوة.
وقد تضمن القرآن الكريم والحديث الشريف أحكاما وأصولا تشريعية، ووعظا وتذكيرا.
لكن علم الأحكام الشرعية، لم يعد –وفق الفقه- نصوص القرآن والحديث، بل فَهْم الفقهاء، واستنباطهم، وفق القواعد الاصطلاحية المعتبرة لديهم.
وكذلك الوعظ، فقد استقل عن منطوق القرآن والحديث، وعن ممارسة الصحابة رضوان الله عليهم، فأصبح صناعة تجنح، منذ العصر الأموي، إلى القصص والتهويل واستغلال وسائل التعبير والأداء المسرحي، وإلى الترويج لقيم معينة باسم الدين، لحسابات غير دينية، إلى درجة اختلاق الأحاديث، أو إيراد ضعيفها ومعلولها.
الفقيه –إذا أردنا وصفه بالمقارنة بالواعظ- شخص مسؤول عن الاستدلال على أحكامه، وعن الكشف عن آليات اشتغاله بما يُنتِج القناعة بعلمه. وهذا يفرض عليه تراجع الذاتي وانخفاض مستوى الشخصاني في رؤيته.
أما الواعظ، فإن إقناعه للمستمعين له أو المتلقين عنه، لا يستلزم برهنة ومنطقا، ولا يحتاج إلى آليات حجاج، وتوثيق للأدلة، فهو يستغني عن ذلك بقدراته الخيالية والعاطفية، وبما يُحدِثه من التعجيب والدهشة، وما يستدرُّه من المشاعر. وإلى ذلك فإن حضور ذاته طاغ من وراء أقنعته العاطفية والتخييلية.
هكذا يبدو الفرق بينهما مبدئيا وتاريخيا، ولكنه ليس فرقا حدِّيا مطلقا، بل هو نسبي، فقد يقترب الفقيه من الواعظ ويتلبّس دوره، أو يأخذ الواعظ رزانة الفقيه وحياديته وعلانية استدلاله ووضوح براهينه.
لذلك، كانت صناعة الوعظ، على ذلك النحو الموصوف، موضع ذم واحتقار لدى القدامى والمحدَثين، من وجهات دينية وأخلاقية وثقافية، سواء فيما ينتج عنها من تصورات، وما تصنعه من تأثير، وما تستخدمه من حيل ووسائل، أم فيما يتصف به المحترفون لها، وما تتميز به الأوساط التي تروج فيها.
فابن الجوزي –مثلا- يتحدث عن اختلاق الوعاظ والمذكِّرين لأحاديث الترغيب والترهيب، متذرعين بمقصدهم إلى حث الناس على الخير وكفّهم عن الشر، ويتحدث عن تلمّسهم من الوسائل والموضوعات ما يبتغون به رضا العوام، فيظهرون التواجد والتخاشع، ويتصنعون الحركات، وينشدون الأشعار، ويسردون الأقاصيص، وينتقون ما يهيج النفوس.
ويذكر تعلُّق العوام والنساء بهم، وتسبُّبهم في الانصراف عن العلم، وإحداثهم من الخطأ في المقاصد والمفاهيم، ما ينتج عنه الضرر، ويمثِّل على ذلك، بحثِّهم الناس على الزهد فربما تاب الرجل من أثر وعظهم، فلزم زاوية وترك الكسب للعائلة.
ولم يغفل ابن الجوزي عن النفعية وطغيان الذات في ممارسات الوعاظ، في قوله: ومنهم من أُشرب الرئاسة قلبه، فيحب أن يُعظَّم، وفي إشارته إلى أنهم جعلوا القصص معاشا يستمنحون به الأمراء والظلمة، والأخذ من أصحاب المكوس، والتكسب به في البلدان.
وهذه الإشارة الأخيرة لدى ابن الجوزي، تلفتنا إلى الدور السياسي الذي كانت صناعة الوعظ وفيَّة له، ومؤهَّلة للاضطلاع به، خصوصا إذا لاحظنا أن تحوُّل الوعظ إلى حرفة بالصفات المذكورة، إنما حدث تاريخيا مع بداية الدولة الأموية، وانقسام الأمة الإسلامية إلى أيديولوجيات سياسية/ دينية متطاحنة.
هكذا يصبح حديث الواعظ الديني عن أي شيء، موقفا سياسيا من السلطة القائمة ومن الصراع حولها، لا فرق في ذلك بين أن يتحدث عن القضاء والقدر، أو عن صفات الله تعالى، أو حتى عن الزهد، أو عن الإيمان... الخ، لأن حديثه وفق تصور عقائدي معين يلزم عنه الوقوف مع فريق ضد آخر، أو الحياد بينهما، وكلها مواقف مؤجِّجة للصراع.
وإذا كان المفكر العراقي علي الوردي، حديثا، أضاف الوعاظ إلى السلاطين، في عنوان كتاب له بهذا الخصوص، صدرت طبعته الأولى عام 1954، فإن المعنى الكامن في ذلك، ليس في توجُّه الوعاظ بوعظهم إلى السلاطين –كما قد يُفْهَم- بل في خدمتهم، وهو معنى يشفُّ عن نفي الوردي للوعظ بمواصفاته تلك خارج الاستثمار له سياسيا، وعلى استدلاله به على الاستخدام النفعي والأناني للدين.
ولذلك، كانت إشارة محمد عابد الجابري إلى ظهور الوعاظ، وشيوع صناعة الوعظ، ضمن استدلاله على أزمة القيم في الساحة العربية الإسلامية التي رافقت الاقتتال على السلطة، وهي أزمة –فيما يقول- تقوم في جوهرها على التلاعب بالقيم: على تسخير المطلَق الذي تمثله (=القيم) للنسبي (= امتلاك السلطة) الذي يحرك الرغبة والشهوة.
وبالطبع، بقي الوعظ الديني في الساحة العربية الإسلامية، يرافق الانقسام على السلطة، ويسهم في الصراع عليها، وبقي مظهرا من مظاهر أزمة القيم التي سخّرت الدين للصراعات والمصالح الفئوية والمذهبية وما إليها، إلى يومنا هذا.
فإذا كان الفقه، اليوم، يعاني من جمود وانزواء عن العصر الحديث ومشكلاته، فإن الفضاء الإسلامي يطفح بالوعظ الديني، وتتنوع أشكاله، عبر تقنيات التواصل الاجتماعي، ومنافذ البث الإذاعي والتلفزيوني، إضافة إلى الخطب المنبرية والمحاضرات، وتنشط جموع من المهتمين في توزيع مواده وترويجها.
ويمكن للمرء أن يميز في مادة الوعظ الضخمة هذه، تلك العفوية البريئة التي تتمثل في القصد إلى النصح، والتذكير بالتقوى، ونقد المسلكيات الاجتماعية والفردية الجانحة والمضطربة، وتعزيز التسامح والجديَّة والأخلاقيات المهذَّبة... الخ.
فإلى جانب هذه المادة الضرورية وهي للأسف أقل رواجا واحتفالا في دوائر الوعظ، يمكن أن نرصد مادة وعظية كثيفة تعمد إلى الترويج لقيم بعينها، وإلى رسم لتراتب القيم وخارطتها من زاوية بعينها.
وأول ما يغيب في هذا الوعظ، منطق الاختلاف بمعناه الفقهي، وإذا غاب الاختلاف بهذا المعنى، فليس غريبا أن يكون الوعظ حدِّيا وعنيفا، وأن ينحصر في رؤية واحدة تسعى إلى الانفراد، وتمدّ –بالنتيجة- في عمر الصدام والتطاحن التاريخي.
ويتصل بغياب الاختلاف الفقهي، غياب الإنسان، والإنسان في حد ذاته قيمة وجودية وشرعية أليست نَفْساً؟!.
وغياب الإنسان عن هذا الوعظ، يعني غياب الاختلاف، بمعناه الإنساني، غياب التفاهم والتعاون وغياب الاحترام، وفي النهاية احتقار مواثيق حقوق الإنسان الدولية، ومنجزات العلم الحديث.
وليس مبدأ المصلحة العامة وهو مبدأ فقهي راسخ، خصوصا في بعض الوجهات الفقهية في تراثنا، آخِر ما نفتقده في معظم الوعظ الديني المعاصر. وبغياب هذا المبدأ تتضاءل قيمة الوطن مثلما تتضاءل أهمية المجتمع الدولي ومؤسساته.
إن الوعظ الديني في كثير من تجلياته المعاصرة، دلالة على غياب الضمير الأخلاقي بأصدق وأدق دلالة، والسؤال عن إشكالياته هذه لا يخصُّ المؤسسة الرسمية وحدها، بل يتعداها إلى صمت الفقهاء ذوي الاختصاص والمسؤولية والضمير، وإلى عجز المثقفين إجمالا.