غياب النموذج الفصيح للغة العربية سينتج معه جيل لا يعرف الفصحى إلا في حِلَق تحفيظ القرآن
انتهى أسبوع الاحتفاء باللغة العربية وتعزيز انتشارها. وتناقص عدد التغريدات التي تدعو للحديث بها وسنّ الأنظمة لحمايتها واستخدامها في المحافل والاجتماعات التي تقام في الدولة.
من وجهة نظر خاصة، أظن أن مكانة اللغة يتم الوصول لها بتمكينها سياسيا واقتصاديا ومعرفيا بين أهلها وغير أهلها، وهذا يستدعي عملا جادا ودائما على كل المستويات، فالاهتمام باللغة ليس له موسم.
تحدث البعض عن صعوبة اللغة العربية وتساءل عن إمكانية تسهيل القواعد واختصار بعضها تماشيا مع العولمة ومن باب تشجيع التعلم وتعزيز استخدام اللغة العربية بين أهلها.
قد أتفهم الجزء الأول من السؤال مع ما فيه من الخطورة على اللغة، لو كان الهدف منه تعزيز استخدامها بين غير أهلها ونشرها على نطاق واسع؛ لكن ألن تتسبب الدعوة لتسهيل قواعد اللغة على أهلها في إضعاف اللغة أكثر؟ من وجهة نظري لا ينبغي التساهل في تعليم قواعد اللغة العربية بل يفترض أن يبدأ تعليمها في المدارس من عمر مبكر، لأن اللغة المكتسبة في بيئاتنا المنزلية لغة محكية نتبسط، فيها وتخلو غالبًا من القواعد الدقيقة. إن غياب النموذج الفصيح للّغة سينتج معه جيل لا يعرف الفصحى إلا في حِلَق تحفيظ القرآن، وقد نصل لمرحلة نسمي الفصحى فيها اللغة القرآنية كما تتداولها بعض البحوث حاليا.
حكى لنا أحد أساتذتنا الإنجليز عن تجربة التوقف عن تدريس قواعد اللغة الإنجليزية خلال الخمسينيات والستينيات من القرن السابق، وكيف أدى ذلك لانخفاض مستوى الأداء بين الطلاب مما أدّى لانخفاض مستوى الخريجين اللغوي. لاحظ القائمون على تقييم المخرجات انخفاض أداء خريجي تلك المرحلة فأعادوا تدريس القواعد للمدارس، لكن استمرت الدائرة وانضم للقوى العاملة أشخاص يحملون أدنى الكفايات فقط. احتاج الأمر لوقفة جادة لكسر هذه الظاهرة والتعامل مع آثارها وخصوصا على المعلمين كما قال، لأن المعلم لا يمكنه التعليم إذا لم تكن معرفته أكبر مما في المقرر الدراسي. هذه الظاهرة من وجهة نظري جديرة بالدراسة في مجتمعنا حاليا، خصوصا مع ملاحظات المختصين المتكررة حول ضعف الأجيال حاليًا في قواعد اللغة العربية والمهارات الإملائية، وتشهد بذلك منصات التواصل الاجتماعي، وما رسالة سعد لأمه مطالبا بالحصول على جوال إلا مثال واحد على ما يحدث للّغة العربية في فصولنا الدراسية.
اللغة أيضا بريد المعنى، ووصول الرسالة مشوهة أو مغلوطة أسوأ من عدم وصولها. وهذا ما تعيش بعض آثاره حاليًا اللغة الإنجليزية التي تعتبر لغة العلم والاقتصاد والمعرفة والترفيه حاليا بسبب ظهور ما يعرف باسم الإنجليزية (المشتركة) أو المحكية English as a lingua franca وتعرف اختصارا بـ ELF . يتساهل باحثو ورواد هذه المدرسة اللغوية بأغلب القواعد في سبيل وصول المعنى. بدأ استخدام ELF في المحادثات الشفهية، وكانت تستخدم حصرا بين الأفراد الذين يتحدثون اللغة الإنجليزية كلغة ثانية، لكن ما لبثت أن وجدت لنفسها مكانًا في كل المهارات ووجدت أيضا من يهتم بها من أهل اللغة الإنجليز أنفسهم فظهرت أبحاث وأوراق علمية تدعو لتدريس ELF كلغة لها قواعدها الخاصة والتي تختصر قواعد اللغة الانجليزية للحد الأدنى.
يرى الباحثون المؤيدون لـ ELF ومنهم البروفيسورة Jennifer Jenkins أن تغيير اللغة بالإضافة أو الحذف من حق كل من يستخدمها لأن اللغة وسيلة وليست ملكية خاصة لأحد، بينما يعارضهم حماة القواعد ومعلمو اللغة الإنجليزية كلغة أجنبية English as a foreign language (EFL) ووجهة نظرهم في ذلك أن اللغة ثقافة وهوية وملك لأصحابها، وعلى من يريد استخدامها احترام نظامها الخاص وقواعدها. من وجهة نظري الخاصة سيسهم داعمو ELF في انتشار لغة ينقصها المضمون الثقافي، فاللغة جسر الثقافة والاهتمام بلغةٍ ما دون الاهتمام بثقافتها اهتمام ناقص. على الزاوية الأخرى يقف حراس القواعد الإنجليزية للدفاع عنها رغبة في استمرار هيمنة الإنجليزية كأكثر اللغات انتشارا، ففي ذلك ضمان لحصتهم السوقية سواءً لمعلميهم أو لنشر الكتب والمقررات والتي لا يتوقفون حتى لمراجعتها ومناقشة تحقيقها لأهدافها، فهي لا تدرَّس في مدارسهم على كل حال! ولكي يستمروا أيضًا في وضع الاختبارات المعيارية ومنها IELTS والذي أخفقت Dr. Jenkins في تحقيق الدرجة المطلوبة فيه للالتحاق ببرنامج الدكتوراة في الجامعة التي تُدرِّس وتشرف على الطلاب فيها كما أخبرتنا في أحد اللقاءات.
احتفاؤنا باللغة العربية وسعينا لتعزيز انتشارها ومكانتها لن يتحقق بالاحتفالات والقصائد والمهرجانات الموسمية المكلفة، علينا أولا مراجعة مناهج اللغة العربية الحالية في مدارسنا، والاهتمام بالأنشطة الفعلية الدائمة من مسابقات للخطابة والإلقاء والتأليف والتلخيص والترجمة، وتحويل كل هذا لجزء من ثقافة المدرسة والتعليم بشكل عام. حتى لا تتحول احتفالية الثامن عشر من ديسمبر إلى تاريخ موسمي نغرّد فيه بأسباب ضعف اللغة واندثار الهوية، ونزيّنه بمبادرات برّاقة دون أن نقدم رؤية وخطة لعمل جاد ذي منهجية مستمرة.